معضلة مفهوم العلم في الثقافة الإسلامية

30-04-2025

عندما ننطق كلمة "علماء" في مجتمعات منطقتنا، ينصرف ذهن الجميع إلى رجال الدين، بينما يحدث العكس تماماً في البلدان الأكثر تقدماً؛ حيث تعني هذه الكلمة أولئك الرجال والنساء الأفذاذ الذين يقضون وقتهم في المختبرات والأبحاث والاكتشاف والاختراع، وهذا مؤشر لاستمرار مفهوم "العلم" بمعناه القديم في الفكر الإسلامي، والذي ترسخ منذ بداية مرحلة تأسيس العلوم في القرن الثاني والثالث الهجري إلى اليوم، مما يدل على عدم حصول تطور كبير في بنية العقل في المجال الثقافي الإسلامي.

لقد تأسس "نسق العلوم الشرعية" على أساس "إسناد الخبر" وربط الحقيقة بلحظة سابقة، مما يجعلها محددة سلفاً، ويجعل العلوم بالمعنى الفقهي مقتصرة على التذكير بتلك الحقيقة وشرحها ومحاولة "الاجتهاد" انطلاقاً منها وفي حدودها، فصار العقل في خدمة النص، وصار النص يختزل التاريخ كله، والتجارب السابقة واللاحقة؛ إذ ليس بالإمكان أبدع مما كان، وظل الأمر على ذلك إلى اليوم.

بينما تأسس نسق العلوم العقلية على دراسة الظواهر انطلاقاً من الجهد العقلي، الذي يعتمد على قواه الطبيعية وقواعده المنطقية، وهو نسق ظل غريباً في البيئة الإسلامية بسبب أن مفهوم العلم تحدد على أنه "مأخوذ عن الرسول" وصحابته، عبر الرواية الشفوية التي تم تدوينها بعد ذلك بأزيد من 160 سنة، فالفرق بين النسقين المعرفيين واضح؛ الأول يعمل على ترسيخ المعرفة بالدين وضبط المجتمع من خلال قواعد ونصوص ثابتة، والثاني يسعى إلى اكتشاف الجديد وفهم العالم، وبناء معارف تتطور وتحدث فيها قطائع وطفرات إبستمولوجية هائلة، تنقل العلوم من مستوى بحث معين إلى مستوى آخر لا علاقة له بالسابق، كما حدث عندما انتقلت العلوم من دراسة الظواهر "الماكروسكوبية" كبيرة الحجم، والتي تُرى بالعين المجردة، إلى مستوى الظواهر "الميكروسكوبية" التي لا تُرى إلا بمجهر متطور، مما قلب رأساً على عقب الكثير من مناهج ومفاهيم العلوم، وجعل البشرية تدخل في عالم جديد ومثير من المعارف والاكتشافات المذهلة، بينما ظلت قواعد الفكر الفقهي في ما سمي بالعلوم الشرعية على حالها، وما زالت تثار قواعد في سنة 2025 على أنها تمنع من تغيير قانون أو السماح بحق من الحقوق، ويقوم بذلك مَن يسمون "علماء"، ليس لأنهم اكتشفوا شيئاً جديداً بل فقط لأنهم يحفظون المتون والحواشي والشروح والتفاسير القديمة ويكررونها كما هي على حالها، مستمدين سلطتهم من السلطة ومن تأخر المجتمع.

ولعل الطريقة التي قام بها الفقهاء بتحديد مفهوم العلم لها علاقة كبيرة بهذا التأخر الكبير الذي نعيشه؛ فقد قال ابن تيمية محدداً مفهوم العلم: "العلم ما قام الدليل عليه، والنافع منه ما جاء به الرسول". وهذا معناه أن كل العلوم الحقة لا نفع فيها لأنها لا تتعلق بالآخرة، ولم تأتِ عن طريق "العنعنة" والرواية عن السلف. من جانب آخر نشر بعض الفقهاء عبارات مثل: "مَن تمنطق تزندق"، وكذلك أبيات الشافعي التي كان لها مفعول هدام في عقول الناس، كقوله:

"كُلُّ العُلومِ سِوى القُرآنِ مَشغَلَةٌ 

إِلّا الحَديثَ وَعِلمَ الفِقهِ في الدينِ

العِلمُ ما كانَ فيهِ قالَ حَدَّثَنا

وَما سِوى ذاكَ وَسواسُ الشَياطينِ".

ورغم كل الأحداث الهائلة التي عرفها عصرنا، والنماذج الحضارية الراقية التي أصبحت ماثلة أمام أعيننا، فإن تلك الثقافة المتقادمة ظلت تحكم عقول الناس في تدبير شؤون المجتمع الإسلامي إلى اليوم، بل حتى عندما يتم تجاوز تلك المواقف والأفكار الفقهية بسبب طفرات الواقع وانقلاباته، يبقى منطق التفكير على حاله، مما يجعل تحولات الواقع تبدو مثل انحرافات مشينة.

وأمام هذا العجز الكبير عن اكتساب معارف العصر والمساهمة في تطويرها، فضَّل العقل الفقهي التحايل بالبحث عن وجود "نظريات علمية في القرآن" تحت ما يسمى "الإعجاز العلمي" الذي ليس في الحقيقة إلا تعويضاً نفسياً عن التأخر الكبير الذي نتخبط فيه، ففي مجال البحث العلمي التجريبي أو النظري في العلوم الدقيقة، لا مجال لإقحام الذاتيات الروحانية أو العاطفية، بينما يقوم بعض منظري هذا النوع من التفكير الفاسد بخلط كبير عندما يُقحمون معتقدهم الذاتي الخاص بهم في مجال العلوم القائم على قواعد كونية صارمة.

فمشكلة هؤلاء أنهم يعرقلون إعادة تأسيس مفهوم "العلم" في أذهان الناس؛ لأن دعواهم قائمة على حاجة دينية وليست علمية؛ إذ لا يحتاج العلم إلى القرآن، بينما يحتاج المسلمون إلى العلم لتطوير مجتمعاتهم، كما أنهم ما داموا منشغلين بالدين أكثر من غيره، فهم بحاجة إلى الاقتناع بالعلم من بوابة الدين؛ لأنهم ليسوا في مجتمعات علم ومعرفة، كما تدل على ذلك الأرقام المعلنة؛ حيث لا ينشغل الرأي العام بتطور المعارف العلمية، كما أن نسبة المطالعة ونسبة تلقي المعارف العلمية في بلدان المسلمين متدنية إلى درجة رهيبة.

أدى هذا إلى بروز ظاهرة العلماء "المتشايخين"؛ أي الذين رغم تكوينهم في العلوم الدقيقة يفضلون قبعة "الشيخ" الواعظ على قبعة العالم الباحث في العلوم، والتي لا يبدو أن بلدان المسلمين منشغلة بإنعاشها أو رعايتها، تدلّ على ذلك الإحصائيات المخجلة التي تُظهر بلدان العالم الإسلامي في مؤخرة الركب في هذا المجال.

إن العلم بمفهومه المعاصر يعني مغامرة البحث الدائم عن الحقيقة وتطوير المعرفة في أفق لا نهاية له ولا حدود، مما يعني انعدام المستحيل في منظور العقل العلمي، فما اعتُبر إعجازاً في القرن الثامن عشر أصبح أخطاء معرفية في القرن التاسع عشر، وما اعتُقد أنه يفسّر بعض الظواهر تفسيراً نهائياً في القرن التاسع عشر أصبح في القرن العشرين مجرد معرفة نسبية تنتمي إلى تاريخ العلم وتُمثل محطة في مسار تطور البحث العلمي.

وهذا يعني أن الذين ظلوا يستوردون نتائج العلوم من تقنيات متطورة، مع فصلها عن إطارها الفلسفي والفكري، هم الذين يقومون اليوم بتحريف مفهوم العلم في إطار أيديولوجيا دينية ضيقة تُشكل فرملة حقيقية لأي تجديد فكري.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من "التجديد" إلى "التحديث"

أ. أحمد عصيد

25-12-2024

آراء الكتاب

مدونة الأسرة المغربية، نحو مدنية النص

أ. أحمد عصيد

07-01-2025

آراء الكتاب

المثقف والفقيه

أ. أحمد عصيد

10-12-2024

آراء الكتاب

الفكر الديني ومفهوم الطفولة

أ. أحمد عصيد

26-01-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة