كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

25-06-2025

سور آخر يعتبره التراثيون حصناً منيعاً يتحصن به صحيح البخاري، وهو أن الأمة الإسلامية تلقته بالإجماع، وأن الأمة الإسلامية تعتبر كل ما في صحيح البخاري صحيحاً لا غبار عليه، وهي مجمعة على هذا، وبالتالي من أنكر حديثاً من أحاديث البخاري فمأواه جهنم وبئس المصير، لتنبعث فتاوى التكفير التي لا تعرف طريقاً للحوار والتفاهم.

وبعيداً عن المساجلة، سنناقش بهدوء مقولة الإجماع على صحيح البخاري التي أضحت من الأساطير المؤسسة لقوة هذا الكتاب، لنبين مدى صدقها من كذبها، بأدلة من كتب التراث نفسها، والتي يقدسها هؤلاء الشيوخ الذين تمكنت منهم العقلية السلفية المكفرة المقلدة أيما تمكن، فسخرتهم للدفاع عن باطلها، فكان الثمن غالياً، وهو تشويه الإسلام السمح الداعي إلى استعمال العقل والمنطق، والتفكر والتدبر، بدل التقليد الأعمى غير المتبصر.

ولإسقاط الخرافة يكفي أن يعلم أي إنسان أن الشيعة، وهم نسبة مهمة من المسلمين، لا يؤمنون بصحيح البخاري، ويكذبون كل ما جاء فيه، فأين هو الإجماع الذي يدعيه هؤلاء إذن؟! إلا إذا اعتبرنا الشيعة خارج الملة، وصدقاً سنجد العديد من الشيوخ يهون عليهم إخراج ملايين المسلمين من الإسلام حتى لا يسقط الادعاء القائل بأن الأمة أجمعت على أن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله، وأنها تلقته بالقبول وأن كل ما فيه صحيح، لكننا ماضون في مناقشة الأسطورة، ولن نمل ولن نكل رغم ما يقوم به شيوخ الظلام وأتباعهم من تجييش ضد الحقيقة المستنيرة بنور الحجة والعقل، والمهتدية بنور الوحي، فماذا سيقول هؤلاء إذا استشهدنا لهم بالأعلام من شيوخهم، الذين يُعتبر كلامهم فيصلاً في أمور الدين؟ ذلك ما سنكتشفه من خلال سرد هذه الروايات، وقد صدق أحمد بن حنبل الذي أثر عنه أنه قال: "مَن ادعى الإجماع فقد كذب".

ولنبدأ بمقولة "صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله"؛ فالعديد من الشيوخ يوهموننا أن جميع الفقهاء والشيوخ المتقدمين والمتأخرين يعتقدون بهذه المقولة، والحقيقة أن هذا مجانب للواقع، حيث إن العديد منهم يرون أن الموطأ هو أصح كتاب بعد كتاب الله، ويفضلونه بأشواط على صحيح البخاري، ويقولون: إنه لا يضاهيه شرفاً ولا منزلة، وهذا عند جماعة من كبار محدثي هذه الأمة وفقهائها؛ حيث يرون أن موطأ مالك، أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى فهو عند هؤلاء الشيوخ مقدم على صحيح البخاري فما دونه.

يقول الإمام المطلبي: "ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك"، وفي لفظ: "ما على ظهر الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك"، وفي لفظ: "ما بعد كتاب الله أكثر صواباً من موطأ مالك"، وفي لفظ: "ما بعد كتاب الله أنفع من الموطأ" (شرح الزرقاني على الموطأ) 1/8، و(تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك) للسيوطي، المطبوع مع المدونة الكبرى ص43.

وقد جاء في منتدى الأزهري نقلاً عن الشيخ محمد العمراوي المالكي ما نصه: "لو قال أحدهم -ممن لا اعتناء له بالموطأ وإنما درسه ولم ينظره بعين الإنصاف-: إن قول الشافعي هذا في الموطأ كان قبل تأليف الإمام البخاري لجامعه الصحيح. 

وجوابه: أن كثيراً من الأئمة الأعلام، قد تتابعوا على قول الشافعي هذا، وجعلوه في صدر حديثهم عن الموطأ، مما يدل على تسليمهم له، وقبولهم به، حتى بعد ظهور الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله. 

قال الحافظ ابن عبد البر –رحمه الله-: "الموطأ لا مثيل له، ولا كتاب فوقه بعد كتاب الله عز وجل".

وقال القاضي أبو بكر بن العربي: "اعلموا أنار الله أفئدتكم أن كتاب الجعفي –أي البخاري- هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب، وعليهما بناء الجميع كالقشيري –أي مسلم- والترمذي فما دونهما"، عارضة الأحوذي.

وقد نحى هذا المنحى وانتهج هذا النهج كثير من المتأخرين، كالعلامة المحدث محمد حبيب الله الشنقيطي، والمحدث الشهير الشيخ صالح الفُلاّني، والعلامة ولي الله الدهلوي، وقد أطال النفس في ذلك وقال ما هذه خلاصته: "فالطبقة الأولى من كتب الحديث، منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ والصحيحين... واتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه –أي الموطأ- صحيح على رأي مالك ومن وافقه. وأما على رأي غيره، فليس فيه مرسل ولا منقطع، إلا وقد اتصل السند به من طرق أخرى. فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه". انظر (حجة الله البالغة) 1/385.

وقال في مقام آخر: "لقد انشرح صدري وحصل لي اليقين، بأن الموطأ أصح كتاب يوجد على وجه الأرض بعد كتاب الله –عز وجل-". انظر مقدمة المصفى في شرح الموطأ، بصدر كتاب (المسوى في شرح الموطأ) 1/29.

وأجلى من هذا اعتراض بعض أهل الاختصاص على ابن الصلاح في قوله: "أول من ألف في الصحيح المجرد البخاري". وقد تبع الناس في ذلك ابن الصلاح –رحمه الله- كما تبعوه في أشياء أخرى تتعلق بهذا الفن الشريف". (انتهى نقلاً من منتدى الأزهريين قسم الحديث وعلومه).

واسترسل الشيخ محمد العمراوي المالكي في سرد أسماء الأعلام ممن له باع في الحديث ليثبت أن دعوى الإجماع مجرد وهم من الأوهام المعششة في عقل الكثيرين تقليداً لا تمحيصاً. وقد روي عن البخاري نفسه كما جاء في كتاب علوم الحديث لابن الصلاح ما نصه: "وروينا عن أبي عبد الله البخاري صاحب الصحيح أنه قال: "أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر". وبنى الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي على ذلك: أن أجلّ الأسانيد: "الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر"، واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الشافعي، والله أعلم". انتهى من علوم الحديث لابن الصلاح الجزء الأول الصفحة 16.

ووجدنا من الشيوخ من يعطي الأفضلية لمسلم وصحيحه: "قال أحمد بن سلمة: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلماً في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. وسمعت الحسين بن منصور يقول: سمعت إسحاق بن راهويه ذكر مسلماً، فقال بالفارسية كلاماً معناه: أي رجل يكون هذا؟". انتهى من كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي الجزء 12 الصفحة 564.

وكما يعلم الجميع فمسلم عاصر البخاري، بل كان تلميذاً له.

وقد وجدت مقالة جامعة منشورة على منتدى السودان، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن مقولة تلقي الأمة لصحيح البخاري بالقبول، كذبة ما بعدها كذبة، وهذه المقالة التي جمعت نقولاً عن أئمة أعلام في عدم تلقي صحيح البخاري بالإجماع، هي بعنوان: "الرد الملجم على مَن ادعى إجماع الأمة على البخاري ومسلم"، ونصها التالي:

"يزعم بعض المتأخرين إجماع جميع علماء الأمة على صحة ما أخرجه البخاري ومسلم، وهذا فيه نظر، واعلم أن هناك أحاديث في الصحيحين ضعفها علماءٌ محدثون كثر. وما حصل إجماع على صحة كل حديثٍ في الصحيحين، لا قبل البخاري ومسلم ولا بعدهما. فممن انتقد بعض تلك الأحاديث: أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبو داود السجستاني والبخاري نفسه (ضعف حديثاً عند مسلم) وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وأبو عيسى الترمذي والعقيلي والنسائي وأبو علي النيسابوري وأبو بكر الإسماعيلي وأبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الدارقطني وابن منده والبيهقي والعطار والغساني الجياني وأبو الفضل الهروي بن عمار الشهيد وابن الجوزي وابن حزم وابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم والألباني (الذي نفى بدوره الإجماع على صحيح البخاري في مقدمة كتابه أدب الزفاف)، وكثير غيرهم. فهل كل هؤلاء الشيوخ مبتدعة متبعين غير سبيل المؤمنين؟!

فقد ضعّف العقيلي عدداً من أحاديث صحيح البخاري. وعلى سبيل المثال حديث همام بن يحيى في الأبرص. وقد رواه العقيلي في ضعفائه (4|369) من طريق شيخه البخاري، ثم ضعّفه واعتبره من كلام عبيد بن عمير. هذا رغم اتفاق البخاري (3|1276 #3277) ومسلم (4|2275 #2963) على تصحيحه.

فقد فعل ذلك شيخ الإسلام وابن القيم وحكما على لفظ (ينشئ الله لها خلقاً فيسكنوها) بالنكارة وهو في الصحيح، وتبعهم الشيخ ابن جبيرين وابن عثيمين أيضاً في دروسه، وقد ضعف بعض الحفاظ أحاديث في مسلم أيضاً". انتهى من منتدى السودان.

أتينا بهذه النقول لشيوخ يُعتبر كلامهم فيصلاً في الحديث من طرف من نحاورهم، وإلا فإن موقفنا من كل كتب الحديث والفقه هو موقف ثابت؛ حيث نرى أن هذه الكتب تراث بشري لا قداسة له، ووجب تمحيصه وتنقيحه، ولا نورد ما أوردناه لنصرة كتاب على كتاب آخر، بل لإبطال دعوى الإجماع على صحيح البخاري التي رفعته إلى مقام التقديس، وسيجته بسياج العصمة.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

ارسل بواسطة