يعرف المغرب هذه الأيام غلياناً في النقاش العمومي حول مدونة الأسرة مجدداً، بعد أن أعلن وزير العدل المغربي، يوم الثلاثاء 24 دجنبر، عن التعديلات الجديدة لنص المدونة، وذلك بعد عشرين سنة من آخر تعديل حدث سنة 2004، والذي كان قد سبقته بدوره زوبعة من النقاش والمواجهات بين التيارين الحداثي والإسلامي، عرف معها المغرب آنذاك انقساماً كبيراً بين المعسكرين جسدته المسيرتان الضخمتان اللتان نظمهما التياران في نفس اليوم؛ التيار الحداثي بالعاصمة الرباط، والتيار الإسلامي بالدار البيضاء، ما دفع الملك محمد السادس آنذاك إلى التدخل يوم 27 أبريل 2001 من أجل "التحكيم الملكي" بين الطرفين، الذي هو من الأدوار الهامة للملكية في المغرب عند وجود نزاع مجتمعي في قضية ما. وقد أسفرت التعديلات آنذاك بعد عامين من المداولات عن خطوات هامة أخرجت نص المدونة من وصاية الفقهاء، وجعلت منه نصاً مدنياً وضعياً قابلاً للمراجعة المتواصلة، مع وجود استثناءات قليلة يتم الرجوع فيها إلى نصوص دينية بمنظور اجتهادي منفتح.
غير أن تلك المراجعة التاريخية سرعان ما أبانت بعد سنوات عن قصورها ومحدوديتها، حيث تبين من خلال الممارسة أن التحولات المجتمعية، وكذا تطور بنية الأسرة المغربية، لم يعد يستجيب لها النص القانوني لمدونة الأسرة، مما جعل الحركة النسائية والقوى الديمقراطية المغربية تلجأ مجدداً إلى الترافع من أجل مراجعة جديدة، عميقة وشاملة، وهذا ما حدث فعلاً عندما استجاب الملك لتلك المطالب معلناً عن بدء مراجعة جديدة بتاريخ 26 شتنبر 2023، كلف بها هيئة مكونة من ست مؤسسات دستورية، واكبت النقاش العمومي الذي انطلق من جديد ودام لعدة شهور، كما استقبلت الهيئة المذكورة كل الفاعلين الذين قدموا مقترحاتهم إلى الهيئة من كل التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية والمدنية.
ويمكن القول إن ما أعلن عنه وزير العدل يعكس خطوات جديدة، بعضها على قدر كبير من الأهمية؛ إذ يتضمن مكتسبات كثيرة للمرأة والطفل المغربيين، وقد تمت الاستجابة للكثير من المطالب التي رفعتها الحركة النسائية والقوى الديمقراطية طوال السنوات الأخيرة، ومنها ولاية المرأة على الأطفال، والحق في الحضانة رغم الزواج مجدداً، والاحتفاظ بالبيت بعد وفاة الزوج حمايةً لها وللأطفال من جشع الورثة، وتقييم العمل المنزلي للمرأة مما سيسمح باقتسام الأموال المكتسبة في حالة الطلاق، إضافة إلى إقرار الهبة بدون "الحيازة الفعلية"، وهذا ما من شأنه حماية حق البنات المهددات بكارثة "التعصيب"، وهناك كذلك إقرار الوصية والهبة للمختلفين في الدين، لتفادي حرمانهم من الإرث، بجانب تدقيق معايير النفقة، وتقييد تعدد الزوجات بإجبارية سؤال المرأة عند كتابة العقد عن مدى رغبتها في تسجيل شرط عدم الزواج عليها في عقد الزواج، وتحديد سن الزواج في 18 سنة مع اعتبار 17 سنة استثناءً اضطرارياً محدوداً وفي حالات نادرة وبشروط، وغيرها من المكتسبات الإيجابية التي ستحل الكثير من مشاكل الأسرة المغربية وتضمن استقرارها على أساس العدل عوض العنف والتمييز. ويمكن اعتبار أن المرأة المغربية قد حققت مكاسب كبيرة في هذه المحطة التاريخية.
لكن بالمقابل اعتبرت بعض مضامين المدونة عصية على المراجعة الجذرية، وخاصة منها ما يتعلق باعتماد الخبرة الجينية في إثبات نسب الطفل المولود خارج الزواج، حيث رفض فقهاء "المجلس العلمي الأعلى" التحليل الجيني لإثبات النسب؛ لأنهم يعتبرون أن الابن المولود خارج مؤسسة الزواج هو ابن لا يمكن إلحاق نسبه بأبيه؛ لأن النسب عندهم هو فقط الذي يتم داخل الحياة الزوجية، وهم بذلك لا يهتمون لمصير الأطفال الذين يولدون خارج الزواج، كما يعاقبونهم عن وضع ليسوا مسؤولين عنه، ويحرمونهم من حقهم في الهوية وفي الإرث، كما يحرمون الأم كذلك من أية رعاية. ولكن الجديد في هذه المراجعة الأخيرة هو اعترافهم بالحقوق المادية للطفل المولود بحيث اعتبروا من واجب الرجل والمرأة معاً تحمل نفقات الطفل الناشئ عن علاقة غير شرعية، لكنهم يتمسكون بعدم الاعتراف بالنسب وبالهوية، وهذا طبعاً تناقض كبير يُظهر ارتباك الفكر الفقهي أمام تغيرات الواقع ونظام القيم؛ لأن الطفل لا يحتاج فقط إلى رعاية مادية، بل وعاطفية ونفسية أيضاً؛ لأن ذلك ما يجعل منه شخصاً متوازناً ومواطناً فاعلاً في المجتمع.
من جانب آخر، فالفقهاء لا ينتبهون إلى أن مفهومهم للأسرة مفهوم ضيق تجاوزه الواقع الذي أصبح يعكس نماذج مختلفة للأسرة المغربية، كما أنهم أوقعوا الدولة في التناقض؛ لأنها تعتمد الخبرة الجينية في حالة الزواج وفي حالة فحص الجرائم لدى الأجهزة الأمنية، وترفض اعتمادها في حالة المولود من علاقة خارج الزواج، وهذا يخلق ارتباكاً وتعارضاً في الترسانة القانونية للدولة، علاوة على أنه يحرجها أمام المنتظم الدولي؛ حيث وقّعت وصادقت على الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل والمرأة.
وتُظهر هذه المراجعة الجديدة انتصار منطق الدولة الحديثة على منطق الفقه التراثي القديم، كما تُبرز بأن المغرب لا يتقدم بالقطائع ولكن بالتدرّج، والخطوة التي تم تحقيقها نحو مدنية النص سنة 2004، يتم اليوم تجاوزها بخطوة جديدة في عدد هام من القضايا (139 تعديلاً)، أهمها 16 تعديلاً ذا صلة بنصوص دينية كان الفقهاء يعتبرونها "قطعية"، لكنها طالتها تغييرات غير مباشرة من خلال اجتهاد منفتح، أعطى الأولوية لمصلحة الإنسان على قواعد الفقه القديم.
ويمكن القول إن قانون الأسرة في الدولة المغربية قانون مدني، بدليل أنه ما فتئ يخضع للتعديلات المتتالية، لكنه ما زال يتضمن بعض المواد القليلة المستمدة من الشريعة الدينية أو التي تُحيل على المذهب الفقهي المالكي، غير أن هذه المواد تظل دائماً موضوع نقاش عمومي وأخذ ورد في المجتمع وفي أوساط النخب؛ بسبب ضغط ضرورات الوقت والتحولات المجتمعية. ما يجعلنا نعتبر أن المغرب قد خطا خطوات كبرى في اتجاه مدنية النص، الذي كان يعتبر منذ بداية الاستقلال كما لو أنه نص ديني مقدس لا يمكن المساس به.