زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

07-07-2025

تُعد مسألة الزواج المختلط من المسائل الفقهية التي كرسها الفقه التراثي بدون الاعتماد على أي نص ديني، فما بالك بكتاب الله، حيث إن الفقيه عندما تسأله عن موقف الشرع الإسلامي من زواج المرأة المسلمة من الكتابي، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، يجيبك بشكل آلي وسريع، وكأن القضية لديه محسومة من فوق سبع سماوات، بقوله تعالى في سورة البقرة: (وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (221).
 إذن فالقضية محسومة مسبقاً، لكننا ببراءة نسائلهم عن موقع الكتابي هنا، لأن الآية تحدثت عن المشرك ولم تتحدث عن الكتابي، فيكون الجواب جاهزاً أيضاً ليؤكد لك الفقيه ونشوة الانتصار تلفه أن المسيحي مشرك لأنه يؤمن بالثالوث والقرآن يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
 فيتقرر أن القضية منتهية سلفاً، فلماذا يجادل البعض في ذلك؟ ولماذا أقدمت تونس على الخروج عن أمر الله ورسوله؟

 لكن القضية ليست منتهية كما يروج الفقهاء، وهناك تدليس كبير يمارسه الشيوخ على العامة، ولنبدأ بالآية الأولى من سورة البقرة والتي يتفنن الفقيه في بترها كعادته عن سباقها وسياقها؛ فأصل الآية كاملة كما جاءت في كتاب ربنا بدون بتر هي كالآتي: (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (221).

فكما ترون النهي هنا منصب على الذكور والإناث؛ فقد نهى الله عن زواج الذكور المؤمنين من المشركات وزواج المؤمنة من المشرك، وهنا يتضح أن القرآن لم يتغاضَ عن الذكر المؤمن ليتزوج المشركة، كما لم يتغاضَ عن المؤمنة لتتزوج المشرك، ليتبادر إلى الذهن سؤال بخصوص شِرك الكتابي؛ فإذا كان الكتابي مشركاً بالله كما يعتقد الفقيه، فيقتضي تطبيق الآية أن يشمل المنع حتى الذكور، لأن الكتابية تؤمن وتعتقد بما يؤمن به صنوها الكتابي، فكيف نحرم على المرأة الزواج بالكتابي باعتباره مشركاً، ويبيح الفقيه لنفسه بمعية الذكور أن يتزوجوا بالكتابيات؟ إنّ هذا لشيء عجاب.

الآية التي فيها النهي للرجل والمرأة عن الزواج بالمشركين شخصياً أعتبرها آية راقية، فهي لم تميز بين ذكر وأنثى، ووجهت نهياً واضحاً لكليهما، فلماذا يتلاعبون بالنصوص القرآنية، رغم أن الله تعالى ميز تمييزاً واضحاً بين المشركين والكفار وأهل الكتاب، وأعطى لأهل الكتاب تعاملاً خاصاً في كتابه وأثنى عليهم في مواضع شتى إلا البعض منهم؟ وبالتالي فلا نص يحرم على الأنثى أو الذكر الزواج بالكتابي أو الكتابية، لكن الفقيه يحاول مستميتاً أن يعزز فكره وآراءه التي تبتعد بشكل كلي عن تعاليم القرآن، ليقول لك بأن لدى الذكور نصاً قرآنياً يبيح للذكر أن يتزوج الكتابية؛ وهو هذه الآية القرآنية: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (5).

إذن لم تعد الكتابية مشركة ولا الكتابي مشرك، وبالتالي فقد أباح الله للمؤمنين الزواج بالكتابيات؛ وإذا لم تكن الكتابية مشركة، فإنه لا يوجد نص في كتاب الله يمنع المؤمنة من الزواج بالكتابي، والآية لا يمكن تخصيصها للذكور، لأن الخطاب القرآني في عديد من الآيات يخاطب المؤمنين والقصد هنا ذكوراً ونساءً، وإلا لجاز أن تمنع المرأة من خلال الآية من طعام أهل الكتاب لأنه حسب السياق سيكون مباحاً للذكور، وهذا لا يقول به أي فقيه، فيكون تعميم الآية لجميع المؤمنين والمؤمنات بأنهم مباح لهم ولهن طعام أهل الكتاب، ومباح لهم ولهن الزواج بإناث وذكور أهل الكتاب.

يحاولون تجاوز هذه الآية التي تقول: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، فهي تشير إلى أن المحصنات من المؤمنات حل للكتابيين والمحصنات من أهل الكتاب حل لنا، ولا يوجد نص في كتاب الله يحرم على المرأة بشكل صريح واضح الزواج بالكتابي، بل هذه الآية مع وضع الفواصل سوف تكون نصاً على إباحة زواج المرأة من الكتابي كما سنرى لاحقاً، رغم أن القاعدة الأصولية تقول: "الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يقم الدليل على تحريمها"، والله يقول في محكم كتابه: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم"، ولم يرد نص يحرمها من كتاب الله القطعي الثبوت.
 لكن الفقيه ما زال يعاند مستنداً إلى الآية من كتاب الله التي تقول: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر"، وأنا أتعجب من تمسك الفقيه بمثل هاته النصوص لأنها متوجهة للذكور وليس للإناث، فإذا كانت الكتابية كافرة، فلماذا يمسك المؤمن الذكر بعصمها، وإذا لم تكن كافرة فهي كتابية كما أسماها القرآن فلماذا نمنع المؤمنة من الزواج بكتابي وهو ليس بكافر؟ لأن ما يصح وصفاً للكتابية يصح أيضاً وصفاً للكتابي لإيمانهما بنفس المعتقد.

إن العلاقات الإنسانية بناها القرآن على المودة والتحاب في الله والتعاون في إطار من السلم، حيث قال سبحانه: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، ثم يزيد الله تعالى موضحاً العلاقة في حالة الحرب عندما تهاجر المرأة المؤمنة خوفاً على دينها وحريتها، وهروباً من القهر السياسي والاضطهاد العقدي، بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ)، وتقول الأستاذة نهاد حداد تعليقاً على هذه الآية، في مقالة مطولة لها حول زواج المرأة المؤمنة بالكتابي: 

"بعد إخراج المؤمنات من بيوتهن ظلماً وعدواناً هاجرن إلى النبي، فأنزل سبحانه هذه الآية تحث المؤمنين على استقبال المؤمنات بشرط امتحانهن، ليس للتأكد من صحة إيمانهن، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله، ولكن فقط للتأكد بأنهن لا يرغبن في التولي عن إيمانهن وبأن اختيارهن لا رجعة فيه، وإذ ذاك فقط لا يجب إرجاعهن للكفار لأنهن الآن محرمات عليهم كما حرمت الكافرات على المؤمنين (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن)، فهذه المسألة (أي تحريم الارتباط بالكفار) لم تكن حكراً على المؤمنات فقط بل على المؤمنين أيضاً. فالمؤمنون الذين هاجروا ومعهم نساؤهم الكافرات، كان عليهم أن يرجعوهن إلى أهاليهن مع أداء نفقتهن، كما كان على المؤمنين تأدية النفقات للكفار الذين تخلت عنهن زوجاتهن المؤمنات!". انتهى كلام الأستاذة نهاد. 

فلماذا الاستدلال بهذه الآية، وهي لا تتحدث عن الكتابي بل عن الكفار، وتتساوى فيها الإناث بالذكور؟

ثم تضيف الأستاذة نهاد حداد بقولها الذي أدعو إلى التدقيق فيه، وهو من نفس المقالة: ولنكمل حديثنا عن تحليل الزواج من أهل الكتاب نساءً ورجالاً من الآية القرآنية التالية، رجاء الانتباه إلى الفاصلة التي سأضعها في وسط الآية، لأن وضع الفاصلة بالضبط في ذلك المكان لا يدع مجالاً للشك في أن زواج المرأة المؤمنة من الكتابي شيء مباح وحلال بشكل صريح وواضح في القرآن ومن القرآن. 

بسم الله الرحمن الرحيم: "اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم//// وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات//// والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين".

سأقسم الآية إلى شطرين كي نفهمها جيداً، الفاصلة في هذه الآية أهم شيء على الإطلاق: "اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم/// وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات".

لنتأمل الآية: اليوم أحل لكم الطيبات، ثم أحل لكم طعام الذين أوتوا الكتاب، وأحل لأهل الكتاب طعامكم، وأُحِلت لهم المحصنات من المؤمنات! أي أن طعامكم وكذلك المحصنات من المؤمنات هن حلال أيضاً لأهل الكتاب!

ثم يأتي الشطر الثاني من الآية ليحل للمؤمنين نكاح المحصنات من أهل الكتاب!
 والأجمل من كل هذا أن المولى عز وجل لم يقرر عقوبة الفراق على من يتولى أو يكفر بعد الإيمان، بل إن الله عز وجل قد وعده بعذاب أخروي وبإحباط أعماله، دون أن يدرج نهائياً فرض فصل الزوجين بعد الكفر، بل ذكرهم بمآلهم في الآخرة ونبههم إلى هدم وإحباط أعمالهم إن هم فعلوا! فقط لا غير !!

ومن هنا يتضح لكل متأمل أنه لا يوجد نص صريح واضح من كتاب الله يحرم على المؤمنة الزواج بكتابي اختارته؛ فالأصل في الزواج المودة والرحمة والسكينة، لا أهواء ذكورية محكومة بظروف اجتماعية، مع التذكير أن عمر بن الخطاب يُروى عنه أنه أمر المسلمين بتطليق زوجاتهم الكتابيات، ورأى في ذلك مصلحة عامة، رغم إباحة هذا الزواج بنص القرآن.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

ارسل بواسطة