ميلاد موسى بين التفسير والتاريخ 

09-06-2025

لم تكن قصص بني إسرائيل في القرآن مجرد سرد تاريخي لمجموعة من الأخبار والأحداث التي ارتبطت بمجموعة بشرية بعينها، وإنما هي جوانب من رؤية كونية شاملة تعرض من خلال قصص هادفة ذات أبعاد روحية وأخلاقية واجتماعية. 

يقدم لنا التشابه الكبير بين قصص القرآن والتوراة مساحة خصبة للدراسة الموضوعية بين كتابين شغلا عقل البشرية وروحها منذ قرون طويلة وحتى عصرنا الراهن، فالقصص جاءت لتعيننا على فهم بنية الفكر الديني وعلاقته بتطور المجتمعات وتقويم المسلكيات في مجتمعاتنا الإنسانية.

تكمن أهمية قصة ميلاد موسى في كونها تُمثل مقدمة لشخصية استثنائية يُجمع على تعظيمها أتباع الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية، وهي تمهد لفهم عبقرية القيادة التي نجحت في إنقاذ بني إسرائيل من أسر العبودية والاضطهاد، وقدمت لهم شريعة متكاملة كان لها أكبر الأثر في الفكر الديني والدنيوي لأتباع هذه الشريعة التي بقيت أصولها راسخة في صميم الديانتين المسيحية والإسلامية.

تبدأ قصة ميلاد موسى قبل ميلاده بقرابة أربعة قرون، عندما رحل بنو إسرائيل إلى مصر في زمن يوسف عليه السلام في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وقد استمرت العلاقة بينهم وبين المصريين على ما يرام حتى جاء زمن فرعون الذي عاصره موسى، والذي يرجعه بعضهم إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، والواقع أنه لا يوجد اتفاق بين العلماء حول التاريخ الدقيق للزمن الذي عاش فيه موسى.

يذكر سفر الخروج بأن ابنة فرعون هي التي أطلقت تسمية موسى على الطفل الذي انتشلته من نهر النيل: "وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إلى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْناً، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ" (خروج 2:10). ووفق قواعد اللغة العبرية فإن اسم مُوسَى، يعني "المُنْتَشَل من الماء" (اسم مفعول)، وليس المُنْتَشِل (اسم فاعل). ولكن الفكر اليهودي حاول حلّ هذه الإشكالية اللغوية من خلال ربط الاسم بالتصور الديني باعتباره "تعبيراً نبوياً عن دور موسى في انتشال شعب بني إسرائيل من مصر من خلال مياه البحر الأحمر"! لكنه من غير المنطقي أن تكون ابنة فرعون (المصرية) قد أطلقت على الطفل تسمية مشتقة من اللغة العبرية، وذلك لسببين؛ أولهما أن المصريين كانوا يضطهدون العبريين ويعاملونهم باحتقار فكيف يقبلون أن يستعملوا أسماءهم داخل بيت فرعون نفسه؟ والثاني أن البينات الأثرية لا تسعفنا بأي نصوص عبرية مكتوبة تعود إلى هذه المرحلة، سواء في مصر أو في غيرها!

ويؤكد قاموس الكتاب المقدس على صلة تسمية موسى باللغة المصرية القديمة، فالفعل "مس" الذي يعني "ابن" يظهر في كثير من الأسماء الملكية المصرية القديمة، مثل "أحمس" "تحتمس" "رمسيس" وغيرها. وقد أقرّ بعض العلماء اليهود القدماء بالأصل المصري لاسم موسى، كما هو الحال مع فيلو السكندري ويوسيفوس، الأمر الذي يؤكد قوة الأدلة على الأصل المصري لاسم موسى.

وإذا رجعنا إلى اسم موسى في القرآن فإننا نجده الأكثر ذكراً في القرآن بين جميع أسماء الأنبياء وغيرهم، فقد ذُكر ١٣٦ مرة، ويليه إبراهيم عليه السلام الذي ذُكر 69 مرة. ويمكن أن يعود سبب هذا الحضور الكبير لموسى إلى أن أهمية شريعة موسى لكونها شريعة جامعة استوعبت مختلف جوانب الحياة، وهذا يجعلها أقرب مثال لشريعة القرآن، كما أن قصص بني إسرائيل تُمثل أنموذجاً عملياً تعليمياً لتفاعل الشريعة مع الواقع الاجتماعي وما يصاحبه ويعقبه من إشكالات وتحديات.

وأما عن أصل تسمية موسى في القرآن فنجد المفسرين قد ذهبوا إلى عدة آراء، أهمها ثلاثة آراء ذكرها الرازي في تفسيره؛ الأول: "مِن ماسَ يَمِيسُ إذا تَبَخْتَرَ في مِشْيَتِهِ وكانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كَذَلِكَ". والثاني: "مِن أوْسَيْتُ الشَّجَرَةَ إذا أخَذْتُ ما عَلَيْها مِنَ الوَرَقِ وكَأنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِصَلَعِهِ". وثالِثُها: "أنَّها كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِن كَلِمَتَيْنِ بِالعِبْرانِيَّةِ فَمُو هو الماءُ بِلِسانِهِمْ، وسى هو الشَّجَرُ...".

وينتقد الرازي الرأيين الأولين بجرأة ونباهة بقوله: "واعْلَمْ أنَّ الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ فاسِدانِ جَداً، أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ بَنِي إسرائيل والقِبْطَ ما كانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِلُغَةِ العَرَبِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُرادُهم ذَلِكَ، وأمّا الثّانِي: فَلِأنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ اسْمُ عَلَمٍ واسْمُ العَلَمِ لا يُفِيدُ مَعْنًى في الذّاتِ، والأقْرَبُ هو الوَجْهُ الثّالِثُ". ولكن الرازي لم ينتبه إلى أن المصريين لم يكونوا ليستعملوا اللغة العبرية في تسمية أبنائهم، لما سبق وأشرنا إليه أعلاه، ولكن الجميل هنا ما يبرزه الرازي من سعة مساحة الاختلاف بين المفسرين، وتأكيد بعضهم على وجود ألفاظ ذات أصل غير عربي في القرآن، وقد اقترب ابن عاشور في التحرير والتنوير من قول الرازي في الاشتقاق العبري، لكنه خالفه في مادة الاشتقاق فقال: "قِيلَ إنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن كَلِمَةِ (مو) بِمَعْنى الماءِ وكَلِمَةِ (شى) بِمَعْنى المُنْقِذِ وقَدْ صارَتْ في العَرَبِيَّةِ مُوسى والأظْهَرُ أنَّ هَذا الِاسْمَ مُرَكَّبٌ مِنَ اللُّغَةِ العِبْرِيَّةِ لا مِنَ القِبْطِيَّةِ فَلَعَلَّهُ كانَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ في قَصْرِ فِرْعَوْنَ وأنَّهُ غَيَّرَ اسْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ". ولعل الجملة الأخيرة في كلام ابن عاشور تُمثّل رداً على سؤال متضمن غير مصرّح به، وهو كيف يمكن أن يكون اسم موسى اسماً مصرياً وقد عاش في قصر فرعون؟ فكانت إجابة ابن عاشور: "فَلَعَلَّهُ كانَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ في قَصْرِ فِرْعَوْنَ وأنَّهُ غَيَّرَ اسْمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ". 

واليوم ومع التطور الكبير في الدراسات الأثرية والتاريخية لاحظ عدد من الباحثين المعاصرين وجود تشابه كبير بين قصة ميلاد موسى وقصة ميلاد سرجون الأكادي الذي حكم بلاد بين النهرين، كما في دائرة المعارف الكتابية. وتسجل النقوش المسمارية، الأشورية والبابلية، أسطورة عن نشأته أشبه ما تكون بقصة مولد موسى (خر1: 22-2: 10). وتروي أسطورة سرجون كيف أن أمه وضعته في سلة وألقته في النهر وكيف التقطه أحد الرجال وقام بتربيته، وكيف صار بعد ذلك ملكاً عظيماً لأمة. 

ولا يقتصر التشابه بين أسطورة سرجون وقصة ميلاد موسى على أساطير بلاد ما بين النهرين بل تعدى ذلك إلى الأساطير الهندية، كما يذكر جيمس فريزر في سرده لملحمة "ماها بهارتا" التي تقول "إن إله الشمس أحب "كونتي" (أو بيريت) ابنة الملك، وأنجب منها طفلاً جميلاً، وُلِد متمنطقاً بالسلاح، ولابساً قرطاً ذهبياً وله عينا أسد وكتفا بقرة، ولما خافت الأم الفضيحة وضعت ابنها في سلة لا تتسرب إليه المياه وغطته بملاءة لينة، وسلمته لنهر "أسفا" فقاده التيار في مقاطعة "سونا" ورآه رجل كان يسير على الشاطئ مع زوجته فاجتذباه، وإذ لم ينجبا فقد تبنياه وربياه وأسمياه "كارثا" فنشأ رامياً بارعاً للسهام، وكانت أمه الحقيقية تطمئن عليه عن طريق جواسيسها".

وينتقد بعض المدافعين عن تاريخية قصة ميلاد موسى الربط بين أسطورة سرجون وقصة ميلاد موسى بأن أسطورة سرجون تتحدث عن سرجون الثاني الذي عاش في الفترة 721 – 705 ق.م، وليس سرجون الأول، ووجود عدد من الاختلافات بين قصتي موسى وسرجون، من قبيل أن موسى كان معروف الأب بينما سرجون لا يعرف أباه. وهناك نظرية ثالثة تذهب إلى أن كلا القصتين مقتبسة عن قصة أقدم. 

ومن الملاحظات الأساسية التي يجب الالتفات إليها، أن نفي أصالة قصة ميلاد موسى في التوراة يؤدي بالضرورة إلى نفيها في القرآن، وذلك على اعتبار أن الأركان الأساسية للقصة متشابهة بينهما، وهنا أشير إلى خطورة تسرع عدد من الكتاب المسلمين إلى نقد قصص الأسفار اليهودية دون الانتباه إلى عواقب ذلك على القصة القرآنية!

إن التقارب الكبير بين قصة ميلاد موسى في التوراة والقرآن يعود إلى الموقف الأساسي للقرآن تجاه التوراة والإنجيل، والذي يقوم على التصديق أولاً قبل التصحيح والتكميل، ويكفي هنا أن أذكّر بقول ابن خلدون في مقدمته: "وقد تترجح صحة هذه الأنساب من التوراة وكذلك قصص الأنبياء الأقدمين إذ أخذت عن مسلمي يهودا ومن نسخ صحيحة من التوراة يغلب على الظن صحتها، وقد وقعت العناية في التوراة بنسب موسى عليه السلام وإسرائيل وشعوب الأسباط ونسب ما بينهم وبين آدم صلوات الله عليه، والنسب والقصص أمر لا يدخله النسخ فلم يبقَ إلا تحري النسخ الصحيحة والنقل المعتبر".

وإذا نظرنا إلى المساحة الكبيرة للتشابه بين قصة ميلاد موسى في القرآن والتوراة فإننا نخلص إلى وحدة المصدر الإلهي باعتبار المنظور الإيماني، ولكن ورغم الاتفاق في الخطوط الأساسية للقصة فإننا نجد القرآن يذكر بعض الجوانب التي لا نجدها حاضرة في التوراة، وهي:

1-  أن الله هو الذي أوحى لأم موسى بإلقاء طفلها في النهر. "وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ..." (القصص: 7).

2-  أن الله وعد أم موسى بإرجاع طفلها إليها قبل أن تلقيه بالنهر. "وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص: 7).

3- أن تحريم المراضع على موسى كان بإرادة الله. "وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ" (القصص: 12).

4-  ذكر القرآن محبة الله لموسى في سياق قصة ميلاده "إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ. أنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي" (طه: 37-39).

 ويُلاحظ كذلك ذكر القرآن المستضعفين إلى جانب بني إسرائيل في قصة ميلاد موسى في سورة القصص، وهذا يعطي للقصة أبعاداً عالمية تتجاوز خصوصية تحرير بني إسرائيل من العبودية. فالقرآن يركز على المضامين الإيمانية والأخلاقية للقصة ويربطها بالهداية الإلهية لعموم خلقه. وقلما يتعرض القرآن للتفاصيل الجزئية لقصص الأنبياء، كالتواريخ والمواقع الجغرافية المحددة أو أسماء الأشخاص، ولعل ذلك حتى لا تكون التفاصيل مشغلة عن الاهتمام بالمضامين الأساسية. 

وفي النتيجة فإن قصة ميلاد موسى تطلعنا على بنية الثقافة الدينيّة زمن وقوع القصة، ودورها في توجيه وعي المتلقي المعاصر من خلال قراءة اجتهادية منفتحة على الآخر والحوار معه، لا من خلال نظرة مركزية أخرى تنغلق على ذاتها وتتنكر للمشتركات الإيمانية والأخلاقية بين القرآن وما بين يديه من الكتاب.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة