"العداء الديني" ليس دينياً

14-05-2025

عندما تتصاعد حدّة الصراعات، ويزداد العداء استعاراً بين الأمم والشعوب، ويصعب فهم الأسباب المادية الكامنة وراء ذلك، فإن كثيراً من الناس يتجهون، أو يوجّهون، نحو الدين لتفسّر الدوافع غير المفهومة للعداء، ثم ما يلبث هذا التفسير أن يصبح جزءاً من بنية عقدية ويلقى قبولاً واسعاً لدى قطاعات كثيرة من الناس، وهنا يصبح الدين بمثابة السبب المنتج للعداء والخارطة التي يجب اتباعها للوصول بالصراع إلى الغاية التي سينتهي إليها. وفي خضم هذا الخلط "غير البريء" بين الدين وصراعات البشر تسعى بعض النخب الفكرية إلى البحث عن الدين بمعناه العميق، بعيداً عن أصل الصراعات والعداوة والخروج من دائرة توظيف الدين وتعاليمه لتبرير العداء والعدوان بين الأمم والشعوب. 

لا يقبل الإسلام فكرة شيطنة شعب أو طائفة أو دين؛ فالصراعات والنزاعات بين البشر ظاهرة قديمة قِدم المجتمعات البشرية، وهي لا تجعل فئة من الناس شريرة أو ملعونة بالفطرة. وهنا يرفض القرآن فكرة العداوة "الأصلية" بين البشر، ويجعلها متصلة بمفهوم الشر وخضوعاً للشيطان، وفي الوقت ذاته يكشف القرآن عن جذر العداوة في النفس البشرية، والذي يتمثل بالكراهية والبغضاء: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء" (المائدة: 91). وفي تأكيد القرآن على مسؤولية الإنسان عن عداوته وما يتبعها من جرائم وفساد نجده يقول: "فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (المائدة: 30)، ونلاحظ في هذه الآية أن أول جريمة قتل وقعت بين البشر كانت بين الأخوة، وهذا يؤكد النظرة القرآنية الرافضة للصراعات بين البشر باعتبارها "جريمة عائلية" تمزق الأسرة الإنسانية.

ومما ينفي فكرة "أصالة العداء" بين المسلمين وأهل الكتاب ما جاء في تعاليم القرآن من إباحة للزواج من أهل الكتاب، وتحليله أكل طعامهم؛ فالانفتاح في العلاقات الأسرية والتبادل الاقتصادي في أسباب المعيشة يؤسس للثقة والتراحم بين الناس، وليس ذلك ميزة سلطوية أو ذكورية يمارسها طرف واحد على حساب الآخر؛ فالآية تُحدثنا عن نهج اجتماعي إنساني يجمع بين المختلفين من أتباع الأديان والشرائع: "الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (المائدة: 5).

يحدد القرآن موقفه من الإنسان تبعاً لعمله وأخلاقه، وليس بناءً على انتسابه العرقي والقومي والديني: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [النساء: 123]. فالعمل الصالح الذي يقوم على المعرفة الواعية والإرادة الحرة هو الذي يصنع هوية الإنسان ويحدد قيمته ومكانته، وعلى هذا الأساس فإن العداء في القرآن يتصل بسلوك الفرد وما يشتمل عليه من خير وقسط أو ظلم وإفساد. وعلى ذلك يفصل القرآن بين العداء وبين الاختلاف في الدين والاعتقاد، وقد وضع القرآن قواعد أخلاقية ضابطة للعلاقة مع المخالفين في الدين والاعتقاد، تسمو بهم فوق نزعات العداء، كما في الآية: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]. فالبر والقسط هو الحالة الأصلية للعلاقات بين الأمم والشعوب. وأما العداء والصراع فهو حالة تطرأ على العلاقات البشرية نتيجة الظلم والاعتداء، لا بسبب اختلاف الدين أو اللغة أو العرق.

يؤسس القرآن نقده للسلوك البشري على اختلال المقولات الفكرية أو المسلكيات الخاطئة التي من شأنها تقويض العمران والإفساد في الأرض. وعندما ينتقد القرآن عداوة فريق من أتباع شريعة موسى لغيرهم فإنه يهدف إلى معالجة مشكلة العداء باعتبارها خللاً في فهم الدين وتطبيقه وأخذ العبر والدروس، وليس بهدف الشماتة والشيطنة، وفي المقابل فإن امتداح القرآن لمودة فريق من أتباع المسيح تجاه المسلمين فإنه يُشيد بسمة أخلاقية وروحية يجب على الناس التمثل بها تجاه من يخالفهم من أتباع الأديان: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة: 82]، فالفكرة الجوهرية في الآية هي رفض وقوع العداوة بين الناس أولاً، ثم التأكيد على إمكانية المودة بين الناس رغم اختلاف أديانهم ومعتقداتهم ثانياً.

يُقدم القرآن عدداً من الأسس والنماذج الأخلاقية والمفاهيمية التي تعالج أسباب العداء بين الأمم والشعوب؛ ومنها الابتعاد عن منطق التعميم في الحكم على أي مجتمع أو طائفة بحكم واحد، كما هو الحال مع أهل الكتاب: "لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ" (آل عمران: 113-115).

لقد مثّلت الدوافع العنصرية ومقولات الاستعلاء العرقي والقومي منطلقاً للعداء بين الأمم الشعوب، وفي هذا السياق يحدثنا القرآن عن مفهوم "الخيرية التنافسية" الذي يضع الناس جميعاً على مهاد واحدة، وذلك خلافاً لمفهوم "الشعب المختار" الذي يختزل الخير والفضيلة في مجموعة عِرقية أو قبلية واحدة: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران: 110)، فنحن أمام "خيرية تنافسية فعّالة" تدفع الأمم إلى التسابق في سبيل تحقيق الخير للناس والتقريب بينهم، مهما اختلفت أسماؤهم وشعاراتهم، وهي كذلك "خيرية مشروطة" تقوم على تحقيق ثلاثة شروط، وهي: (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله)؛ فالإيمان بالله هو منبع الخير والفضيلة في النفس البشرية. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مطلباً طائفياً أو عرقياً، فالمعروف هو كل ما ينفع الناس، والمنكر هو كل ما يُفسد حياتهم: "كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (الرعد: 17). وكما وضح ذلك الحديث النبوي بقوله: "أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ".

ومن المفاهيم الأساسية التي يعالج من خلالها القرآن العداء بين الأمم، مفهوم "استبدال الأمم"، الذي يؤكد وحدة البشرية في ميزان الخالق، ويضعنا جميعاً أمام الأساس الأخلاقي والسلوكي للتفاضل والتسابق بين الأمم والشعوب: "وإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم" (محمد: 38). فكل أمة يمكن لها أن تتصدر مشهد القيادة الأخلاقية للمجتمعات البشرية من خلال ما تقدمه من خير ونفع للناس جميعاً.

إن الأصل في الأخلاق التي يحث عليها القرآن هو عدم مقابلة العداوة بمثلها، وإنما العمل على دفع العداوة بالتي هي أحسن: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]. والغاية المرجوة من هذا النهج الأخلاقي هي تحقيق المودة بين الناس، وهذا يذكرنا بقول المسيح عليه السلام: (سَمِعتُم أَنَّه قِيل: "أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك". أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم) (متَّى 43:5-44). ولعل ما نجده من انسجام عميق في معنى الآيتين، القرآنية والإنجيلية، يدعونا جميعاً لإعادة النظر في مفهوم "العداء الديني"، الذي إن استمر على ما نراه اليوم فإنه سيُقوض روح الدين قبل أن يُقوض عمران البلاد وأرواح العباد.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة