من غير الممكن الفصل بين تطور المعارف العقلية وفهم التعاليم الدينية، ولا يجوز لتلك التعاليم أن توجب على المؤمنين التخلي عن عقولهم ومعارفهم البشرية في سبيل تقوية إيمانهم ومعتقداتهم الدينية؛ فالتعاليم الدينية الصحيحة تأتي بما تجيزه العقول وتحتمله لا بما تحيله وتناقضه. وهنا تتجلى حقيقة القرآن بأسمى صورها في مرآة العقل البشري، فقد أودع الله ذلك العقل قدرة هائلة تؤهله لإعمار الأرض وفهم رسالات الأنبياء وحقائق النبوات، فالعقل هو أعدل الأشياء قِسمة بين الناس، والقول بقصور العقول البشرية بأجمعها عن معرفة معاني الخطاب القرآني يزعزع حكمة التنزيل ويقوض قيمة العقل ومفهوم التكليف، فما نزل القرآن إلا ليفهم ويُعقل وليكون هاديا للناس في دينهم ودنياهم.
تتباين درجات البيان في الخطاب القرآني مع تباين قرائح الناس وقدراتهم على الفهم والنظر والاستنباط، وتزداد قدرة العقل البشري على فهم ذلك الخطاب عندما يستثمر التراكم المعرفي لدى الأمم السابقة ويستأنف النظر في فهم تراثه الذاتي وموروثه الحضاري.
وفي سبيل بحث إشكالية معقولية النصوص وتعذر فهمها على العقل الإنساني نتوقف عند آية من أكثر الآيات القرآنية إثارة للنقاش والجدل في هذا السياق، وهي ما يمكن تسميته بآية "المتشابهات"، وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7].
فأول ما يلاحظه الباحث في تراثنا التفسيري هو الاختلاف في معنى "المحكم" إلى جانب الاختلاف في معنى "المتشابه"، وباعتبار ما ذكره البغوي في تفسيره نجد المفسرين قد اختلفوا في معنى كل من المحكم والمتشابه على ثمانية معانٍ، وهي:
1-المحكمات هن الآيات الثلاث في سورة (الأنعام: 151) ونظيرها في بني إسرائيل (الإسراء: 23)، والمتشابهات حروف التهجي في أوائل السور.
2-المحكم ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضاً في الحق ويصدق بعضه بعضاً.
3-المحكم الناسخ الذي يُعمل به، والمتشابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به.
4-محكمات القرآن ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به.
5-المحكمات ما أوقف الله الخلق على معناه، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه لا سبيل لأحد إلى علمه، نحو قيام الساعة.
6-المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه ما احتمل أوجهاً.
7-المحكم ما يعرف معناه وتكون حججها واضحة ودلائلها لائحة لا تشتبه، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل.
8-المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
تشكل الآيات المحكمات المبادئ الكلية التي تمثل "أم الكتاب" وهي بمثابة أركان البناء القرآني، بينما تأتي الآيات المتشابهات لتغطي الجوانب العملية المتغيرة والتصورات الجزئية التي تدعم ذلك البناء وتزيده كمالاً وجمالاً. فالمحكم يتصف بالشمولية والثبات، كما يتصف المتشابه بالتطور والحركية، لكنهما يتكاملان في تكوين منظومة معرفية واحدة تجمع بين الثابت والمتغير والكلي والجزئي والعلمي والعملي.
تحفز الآيات المتشابهات العقل على البحث والنظر والاستدلال، وفي ذلك يقول الإمام الزمخشري: "لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به".
الراسخون في العلم هم أهل المعرفة بالكتاب وما فيه من المحكمات والمتشابهات، وهم الأنموذج الأعلى الذي يمكن للعقول بلوغه في سعيها لحقائق الإيمان، ورغم ذلك فإن إيمان الراسخين بالمحكمات والمتشابهات لا يخرج عن محدودية معارفهم. وهذا يعني أن العلم المطلق هو من خصائص الله وحده ولا سلطة لأحد من الخلق على معتقدات الناس ومعارفهم.
يدل معنى "الراسخون" على القوة والتمكن والعمق والثبات. وقد وردت تسمية "الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ"، مرتين في القرآن؛ الأولى، في قوله سبحانه: "لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ" [النساء: 162]. الضمير "مِنْهُمْ" يعود على العلماء الراسخين من "أَهْل الْكِتَابِ".
يبدأ إيمان الراسخين في العلم من "العقل الحر" الذي يستنفر جهودهم ويستفرغ وسعهم في البحث عن إجابات جديدة تنتهي بالتسليم الطوعي بمحدودية معارفهم. خلافاً لإيمان "غير الراسخين" الذي يبدأ وينتهي من التسليم والخضوع القهري لما وجدوا عليه آباءهم من عقائد وإجابات.
تأويل الآيات المتشابهات والبحث في دلالاتها ومعانيها يشكل سمة يمتاز بها الراسخون في العلم، ولا يتوقف تأويل الراسخين على المتشابه دون المحكم، فالهاء في قوله "وما يعلم تأويله" تعود على "الكتاب" كله بمحكمه ومتشابهه. فالمشكلة لا تكمن في "تأويل الراسخين" وإنما باستغلال الذين "فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ" لتأويل الآيات المتشابهات "ابتغاء الفتنة"، فمشكلة هؤلاء ليست مشكلة "معرفية" تتصل بمدى فهمهم للنصوص الدينية، وإنما مشكلتهم "أخلاقية".
وقد أدى الفهم السطحي للآية إلى خلط عجيب بين التأويل والفتنة بحجة العطف بينهما، والواقع أن القرآن قد امتدح التأويل في عدة مواضع، نحو قوله على لسان العبد الصالح لموسى عليه السلام: "سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً" (الكهف: 78)، وفي موضع آخر ذكر التأويل في سياق حلّ النزاع بين المؤمنين: "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" (الإسراء: 59).
ويلتقي التأويل بمعناه العام مع التفسير الإشاري، كما يظهر ذلك في تعريف الإمام الماتريدي للتفسير الإشاري بأنه: "تأويل القرآن على خلاف ظاهره لإشارات خفية تظهر لبعض أولي العلم، أو تظهر للعارفين بالله من أرباب السلوك والمجاهدة للنفس"، وقد استعمل ابن عباس هذا النوع من التفسير في آيات سورة الفتح: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ" "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً" (النصر: 3) فقال: "هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له"، وهذا يؤكد أصالة التأويل وتعدد مدارسه وما يفتحه أمام العقل المسلم من آفاق تفسيرية كبيرة.
ينطوي التأويل بمعناه الواسع على جدلية عقلية ولغوية مركبة بين عقل العارف وموضوع المعرفة، سواء أكان الموضوع دينياً أم دنيوياً. وهي جدلية تتعدى كثيراً التأويل باعتباره آلية دفاعية للهروب من تعارض ظواهر النصوص تارة وبين تناقضها وبديهيات العقل أو حقائق العلم تارة أخرى، فالتأويل هو جزء من منهج معرفي يبحث في معقولية المعني ودلالات النصوص دون إخلال بالمفاهيم الكلية للمجال المعرفي المدروس.
لا يقتصر التأويل بمعناه الصحيح على تأويل اللفظ القرآني "المفرد" دون اعتبار لدلالة الجملة القرآنية وسياقها أو البحث في القضية ذات الصلة في القرآن على وجه العموم. وفي ضوء ذلك يقف الباحث أمام ثلاث دوائر متداخلة؛ الأولى: المعنى من حيث دلالة اللفظة عليه في اللسان العربي، والثانية: المعنى من حيث الاستعمال القرآني، والثالثة: المعنى من حيث دلالته الفلسفية والعقلية في الإطار المعرفي العام.
إن التأكيد على وحدة العقل البشري أمام خطاب التنزيل الإلهي يُمثل منطلقاً أساسياً في بناء خطاب إنساني عالمي يخرجنا من أسر تقديس السلف وإصر الطائفة الناجية، ويضعنا أمام الأسباب الواقعية لتراجع المجتمعات وقصورها الحضاري.
وهنا أشير إلى الاتجاه التأويلي الأهم في تاريخ الفكر الإسلامي، والذي يمثله ابن رشد، والذي أعطى للعقل الدور الأكبر في فهم النص الديني: "ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد". ولا شك أن دفاع ابن رشد عن البرهان العقلي هو في الحقيقة دفاع عن "المحكم الأعظم" الذي يشترك فيه الناس جميعاً؛ فإسقاط العقل البشري في فهم القرآن يعني تعطيلاً "شرعياً" لدور العقل البشري في فهم حقيقة للدين. وإذا جاز ذلك في "ديانة ما" فإنه أبعد ما يكون في الرسالة "الخاتمة" التي تخاطب عقول الناس أجمعين.