فلسفة القوة في ضوء القرآن

14-07-2025

يبدأ مفهوم القوة في القرآن من "المعرفة" باعتبارها الميزة الفارقة التي تجعل الكائن البشري يسود الأرض بكل ما فيها من كائنات، وتمثل المعرفة أول فعل يتوجب على الإنسان القيام به ليحقق الغاية التي أرادها الله منه في الأرض: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، وفعل القراءة يتضمن وجود "لغة مكتوبة" وهي عملية تعبر عن أرقى أشكال التعلم التراكمي في مختلف المجالات المعرفية، ويحثّ القرآن الإنسان على "المعرفة القوية" من خلال توجيهه للأنبياء الذين يمثلون نماذج للقوة المعرفية "خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ"، وهذا الأخذ لا يكون قوياً دون اجتهاد في الفهم والتعقل، وعزم في الإرادة والفعل.

لا ينظر القرآن إلى القوة باعتبارها غاية أو فضيلة بذاتها؛ فقد يملكها الظالم والعادل، والمحسن والمسيء، بل في معظم الأحيان يكون الأكثر قوة هم الأكثر ظلماً وبطشاً؛ " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (الروم: 9). ولذلك لا نجد القرآن يمتدح القوة بصيغتها المفردة كما يمتدح التعقل والتفكر والصدق والأمانة. فالقوة ممدوحة في القرآن عندما تقترن بالأخلاق، وأخلاق الأقوياء هي أكثر أصالة من أخلاق الضعفاء، كما في اقترانها بالأمانة في شخصية موسى عليه السلام: "إن خير مَن استأجرت القوي الأمين"؛ فاجتماع الأمانة إلى القوة تعطي لكل منهما قيمته. وهنا ندرك أهمية حضور القوة في تحقيق مسؤولية الأمانة التي حملها الإنسان لإعمار الأرض: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنسان ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: 72]، فأمانة الإنسان على نفسه ومجتمعه والأرض كلها لا تتحقق دون شرط القوة، وهنا نفهم معنى الحديث النبوي: "المُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إلى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ". رواه مُسْلِمٌ.

ينتقد القرآن الاستكبار القائم على الشعور بامتلاك القوة بقوله: " فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ" (فصلت: 15). ويقدم في نهاية الآية نقداً لهذا المنطق الاستعلائي، من خلال التنبيه إلى أن الإنسان هو مخلوق طارئ على الوجود أوجده خالق قدير، وهذا الإيمان من شأنه ردع الإنسان عن الاستكبار والطغيان؛ فالمشكلة تكمن في الشعور المتوهم بالقوة الذي يدفع الإنسان إلى الاستغناء عن أخيه الإنسان، فالطغيان هو نتيجة حتمية لفقدان القيم والنزوع نحو التفرد والإقصاء. والقوة الطاغية لا تعترف بالقيمة الذاتية لكرامة الإنسان، بعيداً عن مقدار القوة والمنافع المادية.  

يشيد القرآن بالقوة الراشدة التي تقوم على المشورة واتخاذ القرار الصحيح المتصل بالقيادة الحكيمة، كما في قصة ملكة سبأ وقومها: " قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ". وهنا نلاحظ أن ملكة سبأ لم تنفِ أهمية القوة أو عدم تأثيرها في الصراعات، وإنما أخذت بالاعتبار توازن القوى ودفع مفسدة التدمير والبحث عن وسائل غير عنيفة (دبلوماسية) لتحقيق المصلحة العامة. 

يمكن لأصحاب الحق أن يكونوا الطرف الضعيف في وجه المعتدين الذين يملكون أسباب القوة المادية. لكن ومهما كان اختلال ميزان القوة فإن المؤمنين هم الأعلون بميزان العدالة الإلهي: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، وهذا يذكرنا بقول المسيح: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ". (مت 5: 5). 

 يركز القرآن على وضع القوة المادية كوسيلة ضرورية لتحقيق الغاية التي يطمح إليها الإنسان، سواء كانت دينية أو دنيوية، ويعبر القرآن عن قوة بمعناها الإيجابي مقترنة بالعمل والسعي "الضرب في الأرض"، الذي يُشعر بقوة الفعل: "وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله". وتستعمل القوة في الدفاع عن النفس وحماية المجتمع " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ" (الأنفال: 60)، فالإعداد لأسباب القوة بمعناها العسكري الذي يشمل مختلف وسائل القتال، لا يهدف إلى القتل "تقتلون"، وإنما يهدف إلى ترهيب الأعداء "تُرهِبون"، وهذا يؤكد أن الغاية من امتلاك أسباب القوة العسكرية ليست قتل الأعداء وإنما زجرهم وكف شرورهم ومنع أذاهم.

تُمثل القوة ركناً أساسياً من معادلة بناء المجتمعات والتمكين للمجتمعات البشرية، لكن هذا التمكين يحتاج إلى ضوابط تضمن استمراره وتحول دون انقلابه إلى طغيان آخر حيث يصبح المظلوم فيه ظالماً، ومن هذه الضوابط ثلاثة، وهي: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحج: 41). فإقامة الصلاة تعني حق العبادة وحرية ممارسة الشعائر، وإيتاء الزكاة هي حق الفقير والمسكين على الغني، وهذا يعني تحقيق العدالة الاجتماعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني حق المساءلة والمحاسبة من قِبل المجتمع ومؤسساته للأفراد والجماعات. والملاحظ هنا أن هذه الأركان التي تضبط عملية التمكين (القوة الأخلاقية) هي أسس عملية وعالمية لبناء المجتمعات البشرية العادلة في جميع العصور.  

يوجه القرآن عقول المؤمنين إلى أن القوة المطلقة هي لله جميعاً، وأن مصدرها كلها هو الله سبحانه وتعالى: "إنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيعاً" (البقرة: 165). وقوة الخالق هي قوة تتجلى من خلال عدة أسماء إلهية يطلق عليها "الأسماء الجلالية" في مقابل "الأسماء الجمالية"، ومن أسمائه الجلالية: القوي، المتين، القهار، الجبار، المنتقم، ومنها كذلك اسم العزيز الذي قرن القرآن بينه وبين اسم الحكيم "العزيز الحكيم" (42 مرة)، واسم الرحيم "العزيز الرحيم" (13 مرة)، والفرق كبير جداً بين قوة الحكمة والرحمة والقوة التي تقوم على التدمير والإبادة. 

يتمثل مفهوم القوة في الإسلام في سلوك المؤمن من خلال مفهوم الجهاد الذي يستفرغ فيه الإنسان قواه لتحقيق التغيير نحو الخير والفضيلة، والذي يبدأ من جهاد النفس. ثم يتجه إلى جهاد البناء وإعمار المجتمع والأرض، وفي الدفاع عن النفس واسترجاع الحقوق وفق ضرورة لا تلبث أن تنتهي بانتهاء أسبابها، وأما أعلى مراتب الجهاد في الإسلام فهو الجهاد الروحي، باعتبار أن الصورة الأمثل للذات ليست هي التي نجد أنفسنا عليها، وإنما تلك التي نسعى إلى بلوغها بكل ما نملك من قوة وحكمة.

إن اللجوء إلى القوة العسكرية لحسم الصراعات سيؤول في نهاية المطاف إلى تعميم "منطق القوة" والاستعلاء. وهكذا يصبح من يملك أسلحة الدمار يملك حق السيادة والاستعلاء على الشعوب الأخرى، وابتزازها وسلب خيراتها، وهذا يعني على مستوى أخلاقي صعود القوة كقيمة معيارية للحقوق، يجعلها "القيمة المركزية" تستعلي فوق سائر القيم الإنسانية، ولكن التاريخ يخبرنا أن موازين القوى تتغير ولا تستقر على حال، فعاجلاً أو آجلاً سوف تأتي قوة جديدة أكبر تفرض شروطها على الأقوياء السابقين، وستكيل لهم بالكيل ذاته، كما في قول المسيح: "رُدَّ سَيْفَكَ إلى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!" (مت 26: 52). فالقوي ليس من يمارس القسوة والعنف والبطش، كما جاء في قول الرسول الكريم: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". وهنا نستحضر الفلسفة التاوية التي تجعل من قوة الماء أنموذجاً للتغيير الحكيم والهادئ. 

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة