من شجرة المعرفة إلى شجرة الخلود

29-09-2025

يشهد تاريخ المعرفة البشرية على القيمة الجوهرية لاكتشاف الإنسان لجهله وأوهامه وتصوراته المنقوصة تجاه نفسه والوجود المحيط به، وتعطي عملية المراجعة والنقد والتصحيح المستمرة لتلك المعرفة قيمتها ونموها وثمارها، فالخطأ والصواب يمثلان أساساً جوهرياً لعملية المعرفة، وهذا يعني أن تطور مفهومي الخطأ والصواب بالمعنى "المعرفي" يشكلان الفضاء العام الذي يتشكل فيه معنى كل من الباطل والحق بالمعنى "الديني".

تصور لنا كثير من القصص والأساطير الدينية القديمة بداية الوجود البشري وما رافقه من "أخطاء" وقعت بها بعض الكائنات في المشاهد التأسيسية لذلك الوجود. وكثيراً ما تشترك هذه المرويات في تقديم تفسيرات "مقدسة" تتحدث عن آلهة أو كائنات تشبه الإنسان أو الحيوانات، وحتى نستطيع أن ندرس تلك المرويات بأبعادها المختلفة لا بد أن ننظر إليها باعتبارها نتاجاً لمخيلة جمعية و"أحلام بشرية" تفسّر وجودهم ومصيرهم وتوجّه سلوكهم وتعكس التحولات والتحديات التي تتفاعل في مجتمعاتهم. 

يربط سفر التكوين في قصته الأولى للإنسان بين الخطيئة والمعرفة والبحث عن الخلود، ونجده يبدأ بأمر إلهي يمنع فيه الإنسان من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ". وتظهر القصة أن منع الإنسان من الاقتراب من "الشجرة المحرمة" يعود إلى سببين؛ الأول: أن الشجرة نفسها هي "شجرة معرفة الخير والشر". والسبب الثاني هو أن الأكل منها يتسبب بالموت. لكننا لو تأملنا بسبب المنع لوجدناه يتعدى قضية معرفة الخير والشر، ويذهب باتجاه "التشبه بالإله": "هُوَذَا الإنسان قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفاً الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضاً وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إلى الأَبَدِ" (تكوين 3 : 22). فالجملة الأخيرة تشعر بوجود مجموعة من الآلهة "كَوَاحِدٍ مِنَّا" أو ربما كان على لسان الملائكة الذين يشعرون بالقلق من أن يسعى الإنسان بعد أن أصبح عارفاً بالخير والشر أن يمد يده ويأكل من "شجرة الحياة" ويحيا إلى الأبد. فوفق سفر التكوين كانت معرفة الخير والشر خطوة اقتربت بالإنسان نحو التشبه بالإله وتحقيق الخلود وهذا يشكل خطراً على تفرد الكائنات العلوية واستعلائها!

تضمنت قصة "الشجرة المحرمة" تفسيراً للأسس الدينية للأخلاق البشرية والتي تقوم على مفهومي الخير والشر، ويمكن القول بأن الخطيئة الأولى قد أحدثت قفزة نوعية في معرفة الإنسان بنفسه ومحيطه الكوني. فمن خلالها اكتشف الإنسان أنه يملك القدرة على اختيار طريقه وتحديد مستقبله مهما كان ثمن ذلك الاختيار.

 ووفق سفر التكوين تبدو معرفة الخير والشر هي التي أعطت للخطيئة معناها، فمن غير تلك المعرفة ما كانت ثمة خطيئة! لكن المشكلة هنا أن منع آدم وزوجه من الاقتراب من الشجرة كان قبل أن يعرفا معنى الخير من الشر، وهذا سيجعل طلب المنع يتجاوز التفسير العقلي ويتركز على الطاعة غير المعللة لأمر الإله!

وإذا ذهبنا إلى القصة القرآنية سنجد أن منع الإنسان عن الأكل من الشجرة يعود إلى عصيانه لأمر الله والذي اقترن بفعل الظلم، "فتكونا من الظالمين"، وهذا يعني أنهما كانا مدركين للقانون الأخلاقي. وهنا لا نجد في القصة القرآنية إشارة إلى مشكلة "الموت" باعتباره ثمناً للخطيئة، بينما يتمثل أهم أثر للخطيئة الأولى بنزع لباس الإنسان: "يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا" (الأعراف: 27). وكأن "السوءة الجسدية" لم تكن مدركة قبل أن يأكل آدم من الشجرة! وهذا يشير إلى تطور نظرة الإنسان إلى جسده ومحاولة تعليل سبب اتخاذه للباس يستر به أجزاء منه "العورة"، وإذا توسعنا في المعنى المجازي للعورة فإن هذا يعني ضرورة ظهور أثر الخطيئة في حياة الإنسان وأنه حيثما كانت الخطيئة فثمة "عورة".

حضرت فكرة الخلود في مخيلة آدم وزوجه وكانت هي المدخل الذي استغله "إبليس" لدفعهما نحو مخالفة الأمر الإلهي، "هل أدلكما على شجرة الخلد". ويدل الانقياد وراء هذا الصوت على أن الإنسان لم يكن مدركاً لنعمة كونه إنساناً، وهو ما دعاه إلى البحث عن هوية مثالية بعيدة عن المعاناة التي تشوب حياته، وكان الأجدر بالإنسان أن يكتشف ذاته كإنسان لا أن يبحث عن هوية أخرى يتوهم بلوغها. فبحث الإنسان عن هوية مثالية، وعدم رضاه بهويته البشرية هو الذي أوقعه في تلك الخطيئة. 

يذكر القرآن شجرة واحدة فقط، خلافاً لذكر شجرتين في التوراة، كذلك لم يصف القرآن الشجرة "الممنوعة" بأنها شجرة "معرفة الخير والشر" أو شجرة "الخلود"، وإنما يشعرنا بأنها شجرة كغيرها من الأشجار، ولكن القضية الجوهرية من منظور قرآني تكمن في الإنسان وأوهامه وليس في شجرة سحرية يتحول الآكل منها إلى ملاك أو كائن قادر على نيل الخلود الأبدي، فذكر شجرة "الخُلد" جاء كصورة متخيلة في نفس آدم وزوجته وهي ذات ذلك "الحلم" البشري القديم الذي نجده في أساطير الأمم الغابرة، والذي يتمثل بالبحث عن الكمال والخلود، وهو يؤكد رغبة الإنسان العميقة بالتخلص من الخوف من الموت وما يحوم حوله من فراغات العدم والمصير المجهول.  

ما تزال المخيلة البشرية تغذي رغبة الإنسان في تحقيق الخلود والانتصار على الموت، ولم تبدأ هذه الرغبة مع الإنسان الأول، وإنما تبلورت بعد أجيال طويلة اختبر فيها البشر آلام الموت ومخاوف المجهول من ورائه، وإلا كيف يمكن لإنسان لم يشهد آلام الفقدان وقساوة الموت أن يطمح إلى الخلود؟

وهنا كان علينا أن نعود لدراسة مرويات الشعوب القديمة كما في الأساطير البابلية التي تبحث عن سرِّ الخلود في ملحمة گلگامش التي تعود إلى الألف الثالث ق.م. والتي تتحدث عن البحث عن سر الخلود بعد أن شهد گلگامش موت صديقه (أنكيدو)، لكنه ورغم سعيه الحثيث فشل في تحقيق الخلود، وبقي الموت متحكماً بمصير بني البشر في عالمهم السفلي.

وتعود مسألة الخلود إلى الظهور مع أسطورة آدابا، الكاهن في معبد الإله إنكي الذي يمتنع عن تناول ما قدمه له الإله أنو من طعام وشراب، لأن الإله إنكي أخبره بأن ذلك سيجلب له الموت. وعندما سأله إله السماء عن سبب امتناعه أجابه آدابا بما أخبره الإله إنكي. وعندها يضحك الإله أنو ويخبر آدابا بأن ما قاله له الإله إنكي لم يكن الحقيقة، وأن الطعام المعروض عليه كان هو طعام الخلود، وفي نهاية المطاف فشل في الحصول على الخلود. وهنا يحتار القارئ في فهم ما حدث، هل خدع الإله إنكي آدابا بنصيحته؟ أم أنه كان ضحية للنزاع بين إلهين؟ أم أن خوف الإنسان من الموت هو ذاته السبب في استمرار الموت وعدم بلوغ الخلود؟

من الأسئلة الملحة التي يجب التأمل فيها في قصة الإنسان الأولى، هل بإمكاننا قراءة "خطيئة الإنسان" في المرويات الدينية باعتبارها لحظة حرية تضع الفعل البشري في مواجهة أوامر الكهنة، الذين طالما زعموا امتلاك أسرار المعرفة ونصّبوا أنفسهم سلطة تقرر الخير والشر؟ وهل يمكن لنا أن نفهم قَسَم الشيطان لآدم وحواء بأنه من الناصحين لهما عندما أشار عليهما بالأكل من الشجرة، بأنه استغلال الكهنة لمعتقدات البشر وطموحاتهم الدينية وأن الشياطين هم هؤلاء الذين يستعملون اسم الله لبلوغ مآربهم الفاسدة؟ وهل كانت عداوة الشيطان للإنسان هي عداوة جهل الإنسان وأوهامه لنفسه؟ وهل يمكن لنا أن نفهم قصة سقوط إبليس وعصيانه لأمر الله "عندما امتنع عن السجود لآدم" بأنها درس مسبق للإنسان الذي سيأكل من شجرة الغرور والاستعلاء، وسيجعل التمييز بين الأمم والأعراق سبباً في القتل والإفساد في الأرض؟

إن خطيئة آدم كما خطيئة إبليس يجب أن تُقرأ باعتبارها درساً بشرياً للعبرة والتعلم، يبرز ضعف الإنسان وقابليته للخطأ والجهل والوهم، وهذه القراءة المعرفية يمكن لها أن تسهم في صياغة هوية عالمية للإنسان تزيده تواضعاً وتعاطفاً مع نظرائه من البشر وغيره من الكائنات، وهي كذلك قراءة تجعل للأخلاق بين الناس قانوناً واحداً مشتركاً يحول بينها وبين الاقتراب من شجرة الظلم والبغي والطغيان، التي نرى ثمارها المميتة في مشارق الأرض ومغاربها.  

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة