لباس الروح: حين يلبس الإنسان إنساناً في القرآن

13-07-2025

في كلمات قليلة من سورة البقرة، يرسم القرآن لوحة بالغة العمق، بليغة الدلالة لمعنى العلاقة الإنسانية بين الذكر والأنثى؛ يقول الله تعالى:

"هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ".

تبدو العبارة للوهلة الأولى تصويراً مجازياً للعلاقة الزوجية، لكنها في حقيقتها تجسيد وجودي وفلسفي، بل وصوفي لمعنى الشراكة البشرية الكبرى. في هذا المقال، سنغوص في أبعاد هذا "اللباس"، ونقرأ فيه تجليات الروح والكينونة، ونكشف ستر النص عن أبعاده النفسية والروحية والفكرية.

(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) من الواضح جداً أن هذه الآية تتحدث عن العلاقة العامة التي تربط الزوجين ببعضهما البعض، وإن كانت جاءت في سياق الرفث ليلة الصيام، فكما أن اللباس المادي يستر العورة، فكذلك الرجل والمرأة يستر كلٌّ منهما الآخر، عاطفياً ونفسياً وجسدياً واجتماعياً.

في المجتمعات الراقية، العلاقة الزوجية تستر العيوب والنقص، بالتكامل الذي يجمع بين الزوجين ولا يفرق، ويصحح الأخطاء ويقوم الاعوجاج، ويؤسس للسكينة والمودة والرحمة.

فاللباس بمعناه المادي الصرف، هو أقرب شيء إلى الجسد، وكذلك العلاقة الزوجية هي أقرب وأعمق علاقة إنسانية. ففيها يتم التداخل الروحي والجسدي والوجداني، لا يشبهه أي نوع من العلاقات الأخرى.

وأيضاً من المعاني الجميلة للباس باعتباره وسيلة وأداة للتجميل والزينة، وهو ما يمكن أن يحققه الزواج باعتباره زينة للزوجين، من حيث ستر العيوب وإكمال النقصان،
 وهذا يوحي بأن كل طرف يرى في الآخر زينةً وجمالاً ومعنى لذاته. كما قد يرمز إلى أن الرجل والمرأة يكملان بعضهما في تحقيق الكمال الإنساني.

ومن خلال هذا التحليل يمكن أن نستنتج أن اللباس في هذه الآية جاء بمعانٍ متعددة، يمكن أن نجملها في:

1.   العلاقة الزوجية ليست فقط حاجة بيولوجية، بل علاقة وجودية نفسية.

2.   الستر المتبادل دليل على الاحترام والخصوصية، وهو أساس الزواج الناجح.

3.   الزواج هو لباس حقيقي للنفس والجسد، يحمي من الانزلاق والضياع.

4. التوازن بين العطاء والأخذ في العلاقة يظهر جلياً في التعبير المتبادل:
 كل طرف "لباس" للآخر، أي ليس أحدهما فوق الآخر.

5.  اللباس ليس مجرد ستر، بل هوية وملامسة وحضور دائم. حين يقول القرآن "هن لباس لكم"، لا يتحدث عن وظيفة جسدية، بل عن علاقة تذوب فيها الحدود بين الذات والآخر.

6.   اللباس لا يُرتدى فقط، بل يسكن الجسد ويلازمه. وهذا يعبّر عن العلاقة التي تجعل الزوجين أقرب من أي قرابة أخرى: ليسوا اثنين فقط، بل وجودان يتداخلان ويعيد كلٌّ منهما تشكيل الآخر.

لذلك يمكننا القول: إن اللباس هو تجلٍّ للباطن، أي إن العلاقة بين الزوجين تلبس النفس وتُظهر حقيقتها. فكما أن الروح تلبس الجسد لتتحقق في العالم، فكذلك الحب والوصال الروحي بين الزوجين هو لباس معنوي تتجلى فيه معاني التوحيد والانسجام.

فالمرأة في التصوف كثيراً ما تُصوَّر كـمظهر من مظاهر الجمال الإلهي (الجمال المجلي)، والرجل كمظهر من مظاهر الجلال، وفي اتحادهما يتجلّى التوازن الكوني. وفي هذا المعنى يقول المتصوفة: 

"المرأة هي مرآة الرجل، يرى فيها نفسه، بل يرى فيها ربه إن فهم."

يقصدون بذلك أن العلاقة بين الزوجين ليست مجرد معاشرة، بل مقام شهود، يرى فيه العاشق معشوقه كأنه يرى فيه وجه الحق. فاللباس في هذا المقام هو ستر الجلال بالجمال، والجمال بالجلال، حيث لا فصل بين الظاهر والباطن، بل توحُّد فيهما.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

ارسل بواسطة