في الوقت الذي تتصاعد فيه نيران الحروب وتتوارى فيه قيم الرحمة والعدالة يوشك أن يكون الحديث عن تصحيح المفاهيم والتصورات ضرباً من الجنون أو حتى مجرد صيغة للهروب من مواجهة الواقع بكل صوره المأساوية ومآلاته العبثية. ورغم هذا المأزق، يدرك أرباب البصيرة أن فهم المشكلات بطريقة صحيحة يمثل المقدمة الأولى لتقديم معالجة تتعدى الانفعال في المأساة وتفاقم مشاعر العجز والغضب.
إن غياب تصور واضح لمعنى العداء وأسبابه المختلفة التي تحيط به يفضي لا محالة إلى تفاقم العداء واحتدام الصراعات في مجتمعاتنا البشرية، وهذا ما جعل العقل السائد ينظر إلى العداء باعتباره حقيقة أصلية تستعصي على التعليل والتفسير ولا سبيل لمواجهتها إلا بصبّ مزيد من الزيت على أتون نارها القديمة.
ولعل أول فكرة نلحظها في سبيل فهم مشكلة العداء هي عدم التمييز بين العدو والمخالف، فالنظر إلى الاختلاف باعتباره خطراً على المجتمع ومقوضاً لحقيقة الدين وأركانه أشعل كثيراً من الصراعات داخل المجتمعات وخارجها، ودفع إلى الاعتقاد بأن شيطنة المخالف وجعله نقيضاً للذات هو الصيغة الأمثل للتخلص منه والقضاء عليه. وقد دفع هذا التفكير إلى تعقيد الخلافات وتعميقها وتحويلها إلى صراعات وعداءات مستمرة يصعب الخروج منها.
ومن الأسباب التي أسهمت في تعقيد مفهوم العداء وتحويله إلى "مسلمة دينية" لدى كثير من الناس ما يعرف بعقيدة الولاء والبراء، والتي تحولت إلى دعوة لصناعة الأعداء تجاه المختلف في الدين والاعتقاد، وهذا خلافاً للمبدأ القرآني الذي يفرق بين المخالفين في الاعتقاد وبين المعتدين الظالمين؛ "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" [الممتحنة: 8].
تكمن خطورة تحويل كل مشكلة خلافية إلى قضية كفر وإيمان في تعطيل قدرة العقل المسلم على التفكير الحر وتشويه مفاهيمه حول التعددية والتعارف والتعاون التي يقوم عليها العمران البشري. والمشكلة اليوم تكمن في تسييل ذلك الفكر المعطِّل وإشاعته بين الناس سواء المتدينين منهم أم غير المتدينين، ولعل شيوع الحس الطائفي بين المسلمين يعطي أبلغ مثال على خطورة هذا الفكر في المجال العام.
هناك فجوة تزداد سعة بين نظرة القرآن لمشكلة العداء والانقسام وبين كثير من الأطروحات والكتابات الإسلامية والتي عجزت عن مراجعة الأسباب التاريخية للاختلاف وعمّقت عوامل التفكك والضعف بين المسلمين وألقت عليها كثيراً من البغضاء والشحناء. وما يلفت الأنظار في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو ما يمكن تسميته بالقابلية للانقسام وسرعة التنازع بين طوائف المسلمين والتي تقف عائقاً أمام بناء قيم المواطنة والعدالة والحقوق المدنية.
لا يمكن للدين بمعناه الصحيح أن يكون عاملاً للانقسام في المجتمعات أو العداء بين الشعوب، وما نراه بين الفينة والأخرى من تجييش طائفي بين المسلمين إنما يعبر عن أزمة معرفية وأخلاقية وليس تعبيراً تلقائياً عن روح الإسلام التي تقوم على تعظيم الجوامع واحترام الاختلافات.
يرفض القرآن العُدْوَان بكل أشكاله بقوله: "وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" [المائدة: 87]. ويُرجع القرآن العداوة في مبدئها إلى الشيطان والنفس، ومن مظاهر عداوة الشيطان للإنسان أنه يحرّض الإنسان على العداوة تجاه غيره، ويسعى إلى إبعادهم عن الدخول في السلم بمعناه الشامل الذي يبدأ من القلب ويمتد إلى الأسرة والمجتمع؛ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" [البقرة: 208].
يسعى كثير من أتباع الأديان إلى تحويل النزاعات العرقية أو السياسية إلى صراعات دينية بهدف خدمة مصالحهم، والواقع أن معظم العداء سواء بين المسلمين أو غيرهم يعود إلى أسباب مادية أو سياسية كما هو حال الصراعات بين مختلف الشعوب والأعراق، بل إن العداء والصراع بين أتباع الدين الواحد يمكن أن يكون أكثر حدة وقساوة عندما تغيب الحكمة وتضعف معاني الأخوة والوحدة.
لا يمكن لنا معالجة العداء الخارجي قبل معالجة مشكلة العداء الداخلي في البيت الواحد والمجتمع الواحد؛ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [التغابن: 14].
لا يعالج القرآن العداء الداخلي بالعنف وإعادة إنتاج العدوان وإنما يعالجه من خلال التركيز على ثلاثة أسس أخلاقية وروحية؛ وهي: العفو والصفح والمغفرة، وعلى هذا النهج القرآني يجب معالجة الانقسامات الداخلية بين طوائف المسلمين من السنة والشيعة والدروز والعلويين، وغيرهم. فالفشل في معالجة مشكلات البيت والمجتمع الواحد يؤذن بفشل أكبر في معالجة العداوات والمشكلات الخارجية.
إن وجود العداوة بين الناس هو واقع لا يمكن إنكاره، لكن العداوة "المفروضة" في أوقات النزاعات لا تلغي الفضائل والأخلاق وإنما تظهرها على حقيقتها، ولذلك عاتب الله موسى على قتله رجلاً مصرياً دون قصد، وبقي موسى يلوم نفسه ويستغفر ربه على هذا الخطأ، وذلك رغم العداء والظلم الذي مارسه فرعون وجنوده تجاه المستضعفين من بني إسرائيل، والملفت أن هذه الالتزام الأخلاقي في قصة موسى قد تفرد بذكره القرآن دون التوراة.
إن أول أعداء الإنسان هو نفسه التي بين جنبيه، ويمكن أن يكون عدوه هو فكرة خاطئة أو رغبة جامحة تستعبده وتسلبه رشده وإنسانيته، وهنا يمكن أن ندرك خطورة فكرة "العنصرية المقدسة" وارتداداتها الرمزية في فكرة "الطائفة الناجية".
وفي مقابل الأفكار التي تعادي الإنسان من داخله هناك أفكار تؤسس للوحدة والألفة بين الناس، وهنا نجد وفق المنظور القرآني أن السبب الأول للألفة بين القلوب هو الله: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً" [آل عمران: 103]. فمن خلال تأليف القلوب يخرج الإنسان من شر العداوة إلى "نعمة الأخوة". وهذا يعني بكل وضوح إمكانية انتصار الألفة والأخوة على العداوة الخصومة.
إن محبة الأعداء التي تحدث عنها المسيح عليه السلام لا تعني محبة العدوان أو قبوله، وإنما تعني استمرار الرجاء بالخير الكامن في الإنسان مهما كانت درجة العداوة والخصومة، وهذا يعني قوة المحبة وانتصارها على العداوة، تماماً كما هو الحال في انتصار العدل على الظلم. إن الإيمان بالخير الذي يكمن في روح الإنسان يجب أن يبقى مهما انحدر سلوكه وساءت فعاله. وهنا يمكن أن نفهم دعوة المسيح التي قال فيها "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم" بأنها كانت ثورة على "العنصرية المقدسة" التي اختزلت القيم الروحية والأخلاقية بمجموعة بشرية محدودة.