سورة العصر.. قراءة روحية

17-09-2025

القَسم الإلهي بـ"العصر" ليس قَسماً محايداً، بل إعلان بأن الزمن ليس خلفية صامتة للأحداث، بل هو فاعل كوني، شاهد على أعمالنا، وخصم يلتهم أعمارنا. العصر هنا يتجاوز الدقائق والساعات، ليصبح صورة للـ نهاية والانحلال، كأن الوجود كلّه في لحظة انحدار إلى غروب أبدي.

1-الإنسان في خُسر: الحقيقة المأساوية

(إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)

بهذه الجملة القاطعة، تصفع السورة الوعي البشري. الإنسان خاسر لا محالة، لأن الزمن يذيب كل ما يبنيه. فلسفياً، هذه الآية تكثيف لفكرة أن الوجود محكوم بالعدم: كل بداية تنتهي، وكل حياة تتناقص روحياً، هي تذكير بأن الانغماس في الدنيا دون معنى يضاعف الخسارة، لأن الزمن يمحو ما لا يمتد إلى المطل، لكن في هذا الخضم وداخل هذا الزخم يوجد استثناء.

2-الاستثناء: رباعية النجاة

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)

الخلاص في هذه السورة يتجلّى في رباعيّة كونية:

· الإيمان: ليس مجرد اعتقاد، بل إدراك للبعد الغيبي الذي يمنح للزمن معنى. الإيمان هنا هو إعادة وصل الإنسان بالأبدية، بحيث لا يستهلك في الحاضر فقط.

· العمل الصالح: تحويل الإيمان إلى أثر ملموس في العالم، ليصبح الوقت مجالاً للخلق لا للاستهلاك.

· التواصي بالحق: البعد الجماعي، حيث لا ينجو الإنسان وحده، بل عبر التواصل والتناصح، فيتحوّل الزمن إلى شبكة تضامنٍ وجودي.

· التواصي بالصبر: الزمن اختبار قاسٍ، والصبر هو الفن الروحي لمواجهة الانحلال، ليس استسلاماً بل ثباتاً في المعنى.

3-الأسلوب الأدبي: موسيقى النهاية والبداية

سورة العصر تشبه جرساً يدق في معبد الكون. نسمع فيه صدى سقوط أوراق العمر، لكننا نسمع أيضاً نغمة خلاصٍ محتمل. فهي تبدأ بقَسم يفتح الأفق على اتساعه، ثم تهوي فجأةً بالحكم بالخسارة، قبل أن تفتح نافذة ضوء عبر الاستثناء. هذه الحركة الدرامية تجعل السورة قصيدةً وجودية قصيرة، تجمع بين الرهبة والرجاء.

4-البعد الفلسفي: جدليّة الزمن والمعنى

فلسفياً، السورة تضعنا أمام معضلة: إذا كان الزمن يلتهم كل شيء، فكيف يمكن للإنسان أن ينجو؟ الجواب يكمن في بناء المعنى فوق جريان الزمن. الإيمان والعمل والحق والصبر ليست أفعالاً مؤقتة، بل محاولات لإرساء جسر بين العابر والأبدي. إنّها محاولة لتحويل الزمن من عدو إلى حليف، من خسارة إلى مكسب.

خلاصة

سورة العصر ليست مجرد موعظة قصيرة، بل هي ملحمة كونية مكثفة:

· الزمن: قوة عمياء تعصر الإنسان.

· الإنسان: كائن خاسر بالضرورة.

· النجاة: ممكنة فقط عبر رباعيّة تربط الأرض بالسماء، والفرد بالجماعة، واللحظة بالأبدية.

إنها إعلان أن الحياة ليست سباقاً مع الزمن فقط، بل سباقاً إلى المعنى، وأن كل لحظةٍ يمكن أن تكون إما خسارة مطلقة، أو بذرة خلود.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

ارسل بواسطة