سؤال الهوية سؤال في صميم الوجود الإنسانيّ الفرديّ والجماعيّ، ويشكّل النقاش حوله إحدى خاصيات عصرنا المتكرّرة. وقد ذهبت العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة إلى القول بأنّ الهوية ليست معطى جامداً ولا جوهراً مطلقاً، بل هي نامية متطوّرة، وهي حركة مستمرّة تبنى ويعاد بناؤها داخل التبادلات الاجتماعية، ويحملها كلّ تغيّر اجتماعيّ على إعادة صياغة نفسها. وقد برز في هذا الإطار مفهوم الاستراتيجيا الهوياتية للدلالة على أنّ الفرد باعتباره فاعلاً اجتماعياً يستعمل موارده الهوياتية بصفة استراتيجية وفقاً لتقديره للوضعية، بما يرتبط بها من مصالح مادية ورمزية من ناحية، وبما يعتمل فيها من علاقات القوة بين المجموعات الاجتماعية من ناحية أخرى. ويقتضي القول بهذا التصوّر الديناميكيّ للهوية رفض اختزالها في انتماء واحد، ذلك أنّ حصر الفرد في انتماء واحد وتضخيم هذا الانتماء كثيراً ما يقود إلى موقف متحيّز ومتعصّب وأحياناً انتحاري، فتكون الهوية قاتلة على حدّ تعبير أمين معلوف. وفي مقابل ذلك يشدّد هذا التصوّر على النظر إلى الهوية باعتبارها مؤلّفة من انتماءات متعدّدة ذات أبعاد ثقافيّة وقوميّة وسياسيّة واجتماعيّة ودينيّة، وأنّها لا تكون إلا في علاقة تفاعل بالآخر، وأنّ الآخرية مكوّن من مكوّنات الذاتية، ما يؤدّي إلى تنسيب مشاعر الانتماء، ولجم النزعات والتعبيرات المتطرّفة والعدوانيّة.
ويبدو سؤال الهوية في السياقات العربيّة والإسلاميّة الراهنة أحد أكثر الأسئلة الملحّة؛ إذ ينبجس من رحم الواقع المأزوم المليء بالتصدّعات والانقسامات والمشحون بنزعات التشدّد والتطرّف، ومن حالة التأخّر التاريخيّ التي تعيشها عديد المجتمعات العربية الإسلامية وهي تجد نفسها في حالة تبعيّة لا فقط لمنتجات الحضارة الحديثة المادية والاستهلاكية، بل لقيم وأنماط عيش ونظم تفكير أيضاً. وأمام هذا الوضع انبثقت الحاجة الماسة اليوم إلى طرح مسألة الهوية، لا سيّما في ضوء تمسّك قطاعات واسعة بالبعد الإسلاميّ في الهوية، فقد بدا واضحاً أنّها حتى مع تعريف نفسها تعريفات ذات أبعاد قومية أو وطنية فإنّها لا تتخلّى عن "إسلاميّتها" كعنوان انتماء، وكثيراً ما يتمّ تجييش هؤلاء في لحظات التوتّر والصدام من الجماعات التي تقدّم نفسها حامية لبيضة الإسلام التي تستغلّها للدفاع عن هذا الانتماء أمام ما يتعرّض له ممّن يقدّمون على أنّهم أعداء الداخل والخارج من استهداف واعتداء. فتحوّل هذا الانتماء إلى عنوان انغلاق على الذات وصدام مع الآخر وعلامة على التطرّف العنيف، وهو ما فاقم الأزمة وجعلها أكثر استفحالاً؛ إذ باتت الهوية نفسها في أزمة.
وفي الواقع ليس مطلوباً من المسلم اليوم أن يتخلّى عن انتمائه الإسلامي، سواء أضفى عليه طابعاً دينيّاً خالصاً أو طابعاً حضارياً، غير أنّ الأمر يستدعي التدبّر في معنى أن يكون المرء مسلماً اليوم؛ هل هو ذلك المسلم المنكفئ على ذاته المتقوقع داخل متاريس الماضوية الشائكة؟ أم هو ذلك المسلم الذي دفعته مشاعر الرفض لواقعه المرير والسخط عليه ويحرّضه خطاب هوياتي دغمائيّ إلى الانزلاق في دائرة عنف شوّهت دينه بقدر ما زادت واقعه مرارة ورداءة؟ أم هو ذلك المسلم الذي لا يلغي انتماؤه الدينيّ انتماءاته القومية والوطنية وتتعايش كلّها في انسجام وتناغم في إطار انتمائه الدولتي، والذي ينفتح على روح العصر ومنجزاته القيمية والفكرية والحضارية، بعقلية التواصل والتفاعل والاقتناع، مؤمناً بحقّه في الاختلاف عن الأسلاف، وأنّ العودة إلى تراثهم تكون عودة متعقلنة، وهو ليس تابعاً لا إلى السلف ولا إلى الآخر الحضاريّ، بل يروم أن يعيش عصره محقّقاً ذاته الأصيلة الفاعلة والمبدعة، مؤكّداً جدارة حضوره في العالم بما يقدّمه من إسهامات لتقدّم الإنسانية ورقيّها في جميع المجالات؟
من الواضح من خلال هذه المعاني أنّ المسلمين اليوم عالقون بين "الإسلامية العائق" الغارقة في أشباح الماضوية والتعصّب الأعمى وهي "إسلامية" مسكونة بمعاني ما قبل حديثة، و"الإسلامية الحافز" الطامحة إلى الانخراط في العصر والتكيّف مع الحاضر وإبداع المستقبل أي "الإسلامية" التي تحقّق أريحية الانتماء إلى منابع الذات وقيم المعاصرة على حدّ السواء، وهي "إسلامية" محمّلة بالمعاني التي توصّلت إليها النظم العلميّة والفلسفيّة الحديثة. وإنّ الاختيار بينهما ليس اختياراً لهوية أو لانتماء فحسب، بل هو اختيار لمصير ولموقع في خارطة العالم أساساً. ويحتاج الأمر إلى أن يتحمّل المسلمون مسؤولياتهم التاريخية في تقديم الجواب الملائم لما يفرضه الواقع الآن وهنا من تحدّيات. وهم مدعوون في ذلك إلى استحضار معنى تحمّل الأمانة بالمعنى القرآنيّ، بما هي تكليف إلهيّ واختيار إنسانيّ: "إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً" (الأحزاب/72)، وأنّ الغاية إعمار الأرض: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود/61)، ومدّ جسور التعارف بين البشر: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات/13)، وإشاعة السلام والأمان بينهم: "... مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً" (المائدة/32).