تمهيد
القرآن الكريم -باعتباره النص المؤسس والمرجعية العليا- طرح رؤية للعقيدة تقوم على الحرية، العقل، والتزكية. أما العقيدة السلفية في صورتها التاريخية والحديثة، فقد أعادت صياغة الإيمان في قالب جامد قائم على التقليد، الاتباع الأعمى، والقطيعة مع جوهر القرآن. هذا المقال يحاول أن يبين -عبر قراءة تدبرية- مظاهر الانحراف بين ما يقدمه القرآن وما كرسته العقيدة السلفية.
الحرية مقابل القسر
القرآن أعلن مبدأً وجودياً: "لا إكراه في الدين". فالإنسان حر في أن يؤمن أو يكفر، والجزاء مرهون باختياره. بينما العقيدة السلفية حولت الإيمان إلى نظام قسري، يجعل من الرقابة الخارجية (السلطان، الفقيه، المجتمع) بديلاً عن رقابة الضمير. وهكذا انقلبت العقيدة من مشروع حرية إلى مشروع قمع.
العقل مقابل النقل
القرآن يخاطب العقل باستمرار: "أفلا تعقلون"، "أفلا تتفكرون"، "لقوم يعقلون" فالإيمان لا يكتمل إلا بالتفكر والنقد. لكن السلفية جعلت العقل تابعاً للنقل، حتى تحول التفكير إلى بدعة، والسؤال إلى زندقة. بهذا انفصلت العقيدة السلفية عن شرطها القرآني، إذ لم يعد الإيمان عملية وعي، بل عملية تكرار ميكانيكي لنصوص موروثة.
الرحمة مقابل الغلظة
جوهر الرسالة القرآنية يتمثل في الرحمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". لكن العقيدة السلفية حولت هذا المعنى إلى غلظة: خطاب التخويف، تكفير الآخر، ترسيخ فكرة "الفرقة الناجية" واعتبار البقية في النار. بينما القرآن يفتح المجال أمام تنوع الأمم والشعوب: "لكم دينكم ولي دين".
التزكية مقابل الطقوس
القرآن يربط الإيمان بتزكية النفس: "قد أفلح من زكاها". غير أن العقيدة السلفية اختزلت الدين في طقوس شكلية: طول اللحية، تقصير الثوب، ترديد نصوص معينة، مع إهمال البعد الأخلاقي. وهكذا تم قلب الأولويات: الشكل على حساب الجوهر، الطقوس على حساب القيم.
الانفتاح مقابل الانغلاق
القرآن نص مفتوح للتأويل، يوجّه الإنسان لاكتشاف آفاق جديدة في المعرفة والحياة. أما السلفية فقد أغلقت النص في "فهم السلف"، فصار القرآن أسيراً لزمن واحد، بدل أن يكون كتاباً صالحاً لكل زمان. الانحراف هنا ليس فقط في مضمون الاعتقاد، بل في منهج التعامل مع الوحي.
التوحيد مقابل التشبيه
الوحدانية القرآنية تقوم على التنزيه: "ليس كمثله شيء". لكن العقيدة السلفية أعادت إنتاج صور تجسيم وتشبيه، من قبيل إثبات "اليد"، "الوجه"، "النزول" على نحو حسي، مما جعل العقيدة تنزلق إلى نوع من الوثنية المقنّعة. فالقرآن دعا إلى تجاوز الصور الذهنية، بينما السلفية قيدت الإله في لغة الحس.
خاتمة
العقيدة السلفية -في صيغتها التقليدية والمعاصرة- تمثل انحرافاً عن المشروع القرآني الذي أراد تحرير الإنسان بالعقل والرحمة والتزكية. بينما أعادت السلفية صياغة الإيمان في اتجاه الخوف، التقليد، والشكلانية. إن العودة إلى القرآن تدبراً وفهماً فلسفياً ليست مجرد تمرين فكري، بل هي دعوة لتحرير الدين من سجون العقيدة الجامدة وإعادته إلى مجراه الأصيل: النور والرحمة والعقل.