تقف النظرة المثالية للتاريخ كأحد أهم الأسباب التي تعيق قدرة العقل على فهم المشكلات الراهنة لمجتمعاتنا، وتحول دون وضع الحلول العملية لها. ولا تقتصر ارتدادات هذه النظرة على الداخل وإنما تمتد لتشمل الآخر والقدرة على التعارف معه؛ فالنظرة المثالية للتاريخ تزيد من "صعوبات التعلم الحضاري" من تجارب الأمم الأخرى، وتُعطّل قدرتنا على توظيف منجزاتها في مجتمعاتنا المعاصرة.
من سمات الفكر الديني السائد في كثير من المجتمعات العربية شغفه المفرط بالتاريخ المتخيّل للإسلام، والذي تم صياغته باعتباره "العصر الذهبي" الذي يستعلي على العقل ويتعذر فهمه ونقده باعتباره استثناءً على التاريخ البشري وليس جزءاً منه. ولعل الناظر في كتب قصص الأنبياء يدرك مدى توسّع ذلك الصدع المعرفي في فهم حركة التاريخ؛ نتيجة للتصورات الإعجازية المعطّلة للقوانين الاجتماعية والطبيعية، وخاصة مع كثرة اعتماد تلك الكتب على مرويات أهل الكتاب دون نقد أو تمحيص.
ولتحقيق القراءة الموضوعية للدرس التاريخي في القرآن، من الضروري النظر في تاريخ الأنبياء وأقوامهم كدرس تعليمي يستدعي التدبر والاعتبار، وكمنطلق روحي وأخلاقي يدفع لإصلاح الواقع والارتقاء به، وليس كصيغة جاهزة يستنسخها المقلدون دون وعي لسياقها التنزيلي أو لسياقنا الحضاري.
لا يختلف تاريخنا الإسلامي عن تاريخ الأمم والشعوب الأخرى من حيث الصراع على الحكم وخلط الدين بالسياسة والبحث عن المصالح والغنائم. وطالما بقي العقل المسلم مجتنباً الخوض في مشكلات الأزمنة الأولى للمجتمعات المسلمة، وبقي متذرعاً بالخوف من الفتنة تارة ومتعذراً بمقولات "الورع البارد" تارةً أخرى، فإننا سنعيد تدوير مشكلاتنا الراهنة، وسنجعل أجيالنا الجديدة المنفتحة على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر عرضة لصدمة معرفية يمكن أن تهزّ إيمانهم بمصداقية مرجعيتهم التاريخية والدينية.
تمت إحالة أسباب النزاعات في مجتمعاتنا الإسلامية المبكرة إلى مرويات ملفقة تحقر العقل المسلم وتجعله مرهوناً بمؤامرة قديمة، كما في قصة عبد الله بن سبأ، والتي ما تزال تَلقى رواجاً كبيراً بين قطاع أو قطعان كثيرة في واقعنا المؤلم، لذلك فإن التركيز على العوامل الخارجية دون البحث في الأسباب الداخلية للنزاعات يضعنا أمام علّة أساسية أخرى لاختلال القراءة الموضوعية لتاريخ تلك المجتمعات، كما يضعنا في مواجهة منهج القرآن في التعامل مع التاريخ، والذي يقوم على ثبات القوانين الاجتماعية واضطرادها، والتأكيد على إمكانية التغيير ومنطلقاته الداخلية وارتباطه بإرادة الإنسان وإدراكه للأسباب، وليس قدراً قهرياً لا صلة للإنسان به، ويكفي أن أشير هنا إلى قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، لندرك ملامح ذلك المنهج القرآني الغائب عن دوائر التعليم الديني السائد.
لا نزال غير مدركين، وربما غير مكترثين، لأهمية المراجعة النقدية الذاتية التي قدمها القرآن في عرضه للأخطاء والمشكلات التاريخية التي وقعت خلال مسيرة الدعوة الإسلامية في عصر التنزيل. وللتدليل على هذه الأخيرة فقد انتقد القرآن الاختلاف الذي وقع بين الصحابة على الغنائم عقب معركة بدر، بقوله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ"، ودعاهم إلى الاهتمام بإصلاح ذات البين وتقوية وحدتهم الداخلية. وقد أشار القرآن إلى استمرار تلك المشكلة في مراجعته لأحداث معركة أحد؛ فعاد لينتقد استمرار بحث بعض الصحابة عن المكاسب والغنائم في تلك المعركة، والتي أسهمت في هزيمتهم، فقال محدداً لبعض أسباب الهزيمة: "وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 152).
ومن أهم المقدمات التي تمهد الطريق نحو إعادة النظر في فهمنا لتاريخنا الإسلامي المبكر، المراجعة النقدية للقراءة العقدية للتاريخ، والتي تنظر للتاريخ باعتباره تجسيداً لمقررات عقدية صراعية بين الخير والشر، وليست عوامل ومشكلات اقتصادية وسياسية واجتماعية تقوم على مقدمات وأسباب ونتائج. وهنا يحضرني خطورة المفهوم العقدي المتداول للشك باعتباره وسواساً شيطانياً يهدد الدين ويقوّض العقيدة، بينما يمثل "الشك المعرفي" مقدمة أساسية لصياغة الفرضيات المحتملة والأسئلة الجديدة التي تُحدث تغييراً في فهم المشكلات وتقديم الحلول لها.
تُعتبر ظاهرة تقديس الأسلاف من أبرز الظواهر المرافقة لنشأة الدين المؤسسي، الذي يقرر رجاله ما هو حق وما هو باطل من المعارف والأعمال التي يجب الانقياد لها؛ فالأسلاف وفق تلك النظرة المؤسسية للدين يمثلون "الدين الحق"، كيف لا وهم الذين حضروا البدايات وشهدوا أعظم الإنجازات، فهم الأعلم والأحكم والأتقى والأنقى.. ولا يدرك سواد المتدينين أن السلف لم يكونوا على فهم واحد أو سوية واحدة في الإيمان والعمل أو في القيمة والمكانة. فظاهرة تفاوت القدرات العقلية والنفسية بين البشر ظاهرة كونية، والتأثر بالرغبات والبحث عن المكاسب والمصالح والنفاق كل ذلك كان حاضراً في مجتمع الإسلام المبكر، ناهيك بالتأثّر غير الواعي بالثقافات السابقة قبل الإسلام، والتي لم يفلت منها حتى كبار الصحابة من أمثال أبي ذر الغفاري، الذي عاتبه النبي بقوله: "إنك امرؤ فيك جاهلية"؛ بعد قوله لبلال "يا ابن السوداء". وهذا يعني أن ثقافة الفرد لا تنتهي بتغيير المعتقد الديني، وإنما تبقى الثقافة السائدة السابقة في المجتمع كامنة ومؤثرة وتحتاج إلى كثير من الزمن حتى تترك مكانها للثقافة الجديدة.
وقد أدى مفهوم تقديس الأسلاف إلى إغفال معرفة الأسباب الموضوعية للنجاحات أو الإخفاقات التي حدثت في زمنهم، كما أسهم في زيادة الجهل بأسباب اختلاف الصحابة بداية من اجتماع السقيفة إلى مقتل الحسين بن علي. وإذا كانت ظاهرة تقديس الأسلاف لها ما يبررها في الأديان القومية كالهندوسية أو الكنفوشيوسية باعتبارها تجلياً للهوية القومية لتلك الشعوب؛ فإن ذلك التقديس لا ينسجم مع الأديان العالمية التي تحترم السلف ولا تقدسهم، وإنما تبحث باستمرار عن سبل الهداية والصلاح وإقامة العدل بين الناس جميعاً.
يمكن للفكر الإسلامي أن يصوغ قراءات تاريخية جديدة مستلهمة من القرآن، كما فعل ابن خلدون الذي استلهم مفهومه للعمران من قوله تعالى: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود: 61)، فالعمران عنده من أهم ما يمتاز به الإنسان عن سائر المخلوقات، وهو يشتمل على التساكن والتآنس والتعاون على المعاش. ولا يقتصر العمران البشري في القرآن على شروط معنوية فقط، وإنما يستند كذلك إلى شروط مادية تجمع بين الإنسان والمكان والزمان.
تُمثل عمارة الأرض غاية كبرى في المنظومة المقاصدية في الإسلام، ولا نجد تعبيراً أبلغ في التنبيه إلى هذا المعنى من قول علال الفاسي: "المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع.."، وهذا وصف دقيق للعلاقة الضرورية بين النظرة المقاصدية للإسلام وبين قدرة الجماعة البشرية على دفع حركة التاريخ.
علينا أن ندرك اليوم أهمية تطوير معرفتنا بشروط العمران البشري وضرورة السعي بكل طاقتنا نحو تجديد منظومتنا المعرفية باتجاه بناء علاقة تكاملية بين المرجعية القرآنية الكونية والتجارب الحضارية الإنسانية. وهذا لا يمكن تحقيقه دون فهم متجدد للقرآن باعتباره مرجعاً معرفياً ملهماً وغير منفصل عن مسيرة الفكر الإنساني وتاريخ الحضارة البشرية بأجمعها.