النص المؤسس و"مثناة" أهل الكتاب

14-09-2025

تبرز أمام الباحث في تاريخ الحركات الدينية الإصلاحية سمة رئيسة تلتقي عليها تلك الحركات، وهي ضرورة الرجوع إلى النص المؤسس، الذي يمثل منطلقاً لمشروع التجديد الذي تقوم عليه سردية الإيمان والبناء المعرفي الخاص بأتباع تلك الأديان. 

إن وجود مصدر مشترك لأتباع أي دين من شأنه أن يؤسس لمنظومة معرفية متسقة قادرة على بلوغ الغايات التي يهدف إليها الدين، ويحدّ من غائلة التنازع بين أتباع المذاهب المختلفة المنتسبين إلى دين واحد. ولو نظرنا على سبيل المثال إلى مقولات الإصلاح الديني المسيحي فإننا نجد مبدأ من أهم المبادئ التي نادى بها مارتن لوثر (1483 – 1546) وهو المبدأ القائل: "الكتاب المقدس وحده"، والذي يعبر عنه باللغة اللاتينية "Sola Scriptura". وهو يعني أن المرجعية النهائية للديانة المسيحية تتلخص في مصدر واحد، وأن كل ما يتعلق بالعقيدة والحياة المسيحية يجب أن يكون ناتجاً عن هذا المصدر، وما يخالف ذلك لا قيمة له.

وأما في الفكر الإصلاحي اليهودي فنستحضر دعوة موسى مندلسون 1729م - 1786 مؤسس الحركة الإصلاحية اليهودية، الذي أكد على مرجعية التوراة وضرورة التحرر من التلمود وآراء الحاخامات المتشددة، والذين يقولون بأن الله أوحى إلى موسى شريعة ثانية إلى جانب الشريعة المكتوبة (التوراة) وهي الشريعة الشفوية (المشنا) "وهي متن التلمود"، وقد عمل اليهود الأورثوذكس على تأصيل مصدرية التلمود من خلال زعمهم بأن موسى قد تلقى "المشنا" من الله. واستدلوا على ذلك بقول التوراة "وقال الرب لموسى اصعد إلى الجبل وامكث هناك لأعطيك الوصايا والشرائع التي كتبتها على لوحي الحجر لتلقِّنها لهم" (خروج 24:12). فقد جاء في التلمود أن "لوحي الحجارة هما الوصايا العشر، أما الشريعة فهي التوراة (الأسفار الخمسة الأولى)، والوصية فهي المشنا، أما التي كتبتها فتعني أسفار الأنبياء والكتابات، والمقصود بـ(لتعليمهم) فهو الجمارا. وهذا يعلمنا بأن كل هذه الأشياء قد أعطيت لموسى في سيناء".

وبالغ بعض كتّاب النصوص التلمودية في ذكر أهمية دراسة التلمود إلى الحد الذي جعلوها تسمو على دراسة التوراة، "أولئك الذين يكرسون أنفسهم لقراءة الكتاب المقدس، يؤدون فضيلة لا ريب فيها، لكنها ليست كبيرة. وأولئك الذين يدرسون المشناة، يؤدون فضيلة، سوف ينالون المكافأة عليها".

إن التشابه الكبير بين ما حصل في التاريخ اليهودي والتاريخ المسيحي من حيث ابتداع المصدر الثاني للوحي، يجعلنا نراجع بوعي أعمق المؤثرات الدينية والثقافية التي أسهمت في تطور "مفهوم السنة" في التاريخ الإسلامي وكيف تحولت كتب مرويات الحديث إلى نص مقدس آخر. وهنا نذكر نصاً عن عمر بن خطاب في غاية الأهمية، يعي فيه خطورة ما حدث مع أهل الكتاب، وينهى المسلمين عن الوقوع في الخطأ ذاته، وذلك عندما قال: "إني كنت أريد أن أكتب السنن، فذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً". والأبدع من هذا ذكر عمر بن الخطاب لكتاب "المثناة" اليهودي، وهو متن التلمود الذي يترجم اليوم بالمشنا أو المشناة، كما في رواية ابن سعد في طبقاته: "كثرت الأحاديث على عهد عمر، فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب"!

 إن المشكلة الحقيقية ليست في وجود مرويات تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المشكلة في تحرير "مفهوم السنة" الذي أصبح وحياً إلهياً يماثل القرآن، وهنا أشير إلى ثلاث مسائل أساسية، الأولى: تأخّر التدوين الرسمي للسنة النبوية إلى قرابة مائة سنة في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهنا نقف أمام فارق زمني كبير يفصل بين تدوين القرآن وتدوين السنة، وهو يضعنا أمام سؤال كبير يتصل بمفهوم السنة عند المسلمين الأوائل، وهو إذا كانت السنة عندهم تمثل وحياً إلهياً فكيف سكتوا عن تدوينها في الوقت الذي تطورت فيه إمكاناتهم المادية، وامتد فيه سلطانهم قبل خلافة عمر بن عبد العزيز، ليشمل العراق وبلاد فارس وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا، وغيرها؟

وإذا كانت السنة وحياً فكان أولى الناس بالأمر بحفظها وكتابتها هو النبي عليه الصلاة والسلام، كما فعل مع القرآن، باعتبار أن مصدرهما واحد! بل وخلافاً لذلك نجده قد أمر بمحو ما كتب منها: "لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

والمسألة الثانية: ظهور تفسيرات للقرآن تسعى إلى تأصيل مفهوم "السنة الموحاة" قرآنياً كما في تفسير الحكمة بالسنة، كما في قول الشافعي: "ذكر الله الكتاب، وهو القُرآن، وذكر الحِكْمَة، فسمعتُ مَنْ أرْضى من أهل العلم بالقُرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله".

والمسألة الثالثة: القول بأن السنة وحى من الله، كما في قول الشافعي في الرسالة: "فكان مما ألقَى في روعه سنَّتَه وهي الحكمة التي ذكر الله". وقول ابن تيمية: " وَالسُّنَّةُ أَيْضاً تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ؛ لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى".

وقد أدى تطور مفهوم السنة هذا على "مفهوم الوحي" وجعله يتعدى القرآن الكريم، ومثال ذلك ما ذهب إليه ابن باز من أن الوحي على أنواع ثلاثة: القرآن الكريم، ووحي أحاديث قدسية، ووحي أوحاه الله إليه وخبر عنه النبي ﷺ وبينه للأمة.

إن مراجعة مفهوم السنة الموحاة من الله لا ينفي أهمية التعلم والاستفادة من المعارف الصحيحة المتصلة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهنا لا بد من التنبه إلى مسألة غاية في الأهمية تتصل بالنظرة الإسلامية للنبي "الإنسان"، والتي تفصل بينه وبين الله، وهذا يعني أن حركة النبي وتصرفاته ليست تجسيداً لكلمة الله على الأرض، فالنبي هو إنسان أولاً وأخيراً، خلافاً لنظرة اللاهوت المسيحي للمسيح الذي يجسد كلمة الله في قوله وفعله. 

ليست المشكلة في تعدد مصادر المعرفة الدينية، ولكن المشكلة هي في تقديم المصادر الثانوية على الرئيسية واعتبارها مماثلة لها، ومساواة ظني الثبوت مع القطعي منه، وما يؤدي إليه ذلك من تناقضات مع المصدر الأساسي. 

لا بد أن ندرك أن البحث عن أحكام تستوعب ما يستجد من النوازل، وإيجاد إجابات وشروحات تفصيلية للتساؤلات المعرفية المستمرة التي تلت عصر النص الأول، قد أسهم في البحث عن "نص ثانٍ" ومصادر أخرى تفتح المجال للتفاعل مع التطور الاجتماعي المتسارع الذي جاءت به الفتوحات الإسلامية. 

لا يوجد مشكلة من حيث الإمكان العقلي في وجود مصادر أخرى غير القرآن، يعتمد عليها العقل الفقهي والتشريعي، كما هو الحال مع "السنة" أو "القياس" أو "الإجماع". ولا مشكلة في الاستفادة من المرويات الصحيحة المتصلة بالرسول الكريم من أقوال تعين على فهم القرآن ولا تخرج عن حدوده ومقاصده في مضمونها، فهي أنموذج لفهم إنساني عميق يرتقي بمعرفتنا للقرآن ولا يحيط به أو يحتويه. لكن المشكلة تكمن في المماثلة بين "القرآن والسنة" وتغليب البعض للمرويات الظنية المنسوبة للرسول على القرآن، وما ذهب إليه العديد من المسلمين من جعل السنة حاكمة على القرآن وقاضية عليه، كما في قول غلاة المرويات المتجاسرين على كتاب الله: "السنة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاضٍ على السنة". وقولهم: "القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن". الأمر الذي أضعف مركزية القرآن في عقل كثير من المسلمين وعطّل مفهوم "إكمال الدين" وأخّره إلى ما بعد تدوين السنة وتطور مفهومها الأصولي والعقدي. 

لا بد من تغيير النظرة النمطية لكثير من المفاهيم الدينية التي لا تدرك حركية المفاهيم ونموها ولا تقدّر قيمة نقدها وتمحيصها، وخلافاً للنظرة التمجيدية لما قام به السابقون من جهود علمية للمعارف الدينية، فإننا أحوج ما نكون إلى استئناف الاجتهاد التأصيلي في أمهات القضايا التي يحسب البعض أن لا مزيد فيها للبحث والاجتهاد.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة