في سُوحِ الفكر الإسلامي المعاصر، تلوح قضايا مفصلية تقف عندها العقول الحيّة وقفة تمعّن وتأمّل؛ لعلّ أبرزها ما يتعلّق بمصدرية التشريع، وسلطة الرواية، ومقام النبوّة بين العصمة والاجتهاد. إذ لا يزال النزاع محتدماً حول ما يُعرف بروايات "السنّة النبوية"، ومدى حجّيتها وسلطتها التشريعية، وهل تمثل وحياً مستقلاً موازياً للقرآن الكريم كما هو مقرر عند جمهور أهل السنّة والجماعة، أم أنها محض اجتهاد نبوي محكوم بظروف زمانه ومكانه، وسياقه السياسي والاجتماعي لا يحمل صفة الإلزام المطلق؟
إن هذا الجدل لا ينفكّ يُبعث جيلاً بعد جيل، كلما تفتّحت الأذهان على سؤال الضابط والمعيار في قبول الروايات. إذ يرى أصحاب المدرسة الحديثية، الحاكمة على نمط التدين في البلدان العربية والإسلامية مع التحفظ على مفهوم «الإسلام»، أن مجرّد صحة السند، ووقوعه ضمن معاييرهم وضوابطهم، كافٍ للفصل في قبول الرواية والتسليم بمضمونها على أنها وحي إلهي يقتضي التسليم والإلزام.
غير أن النظرة التأصيلية التي يبناها دعاة الفكر والتجديد، حين تُخضع هذه المسألة للفحص من منظور قرآني شامل، تضع اليد على موضع الخلل. فصحة السند، وبالرغم من أهميتها والمجهود المبذول فيها، فإنها ليست كافية لقبول الرواية بوصفها نصاً دينياً مُلزِماً، ما لم تُعرض على ضوء كتاب الله، ويُفحص مضمونها الذي يُسمى اصطلاحاً بالمتن في سياق عصمة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي العصمة التي لم يثبت لها القرآن مفهوماً مطلقاً في ظنهم، بل قدّم تصوراً مغايراً يقوم على تأكيد بشرية النموذج النبوي، ليكون القدوة العملية الممكنة للتطبيق من المكلّفين.
فالقرآن الكريم قد أشار مراراً إلى مواقف خالف فيها النبي المراد الإلهي قبل أن يتنزل الوحي مصححاً وموجهاً له.
ومن أبرز الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}. (سورة التوبة، الآيتان 113–114).
وفي موضع آخر، يُخاطَب النبي الكريم بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}. (سورة التحريم، الآيتان 1–2).
ويلاحَظ في الآيتين اقتران الخطاب للنبي بـ"أل" التعريف، مع عبارات "ما كان للنبي أن..." و"يا أيها النبي لِمَ..."، مما يقطع بأن التوجيه الإلهي جاء بعد وقوع الفعل بالمخالفة، لا على سبيل التحذير المُسبق، كما لو وردت لفظة "نبي" نكرة، دالة على العموم لا التخصيص، كقوله تعالى:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. (سورة الأنفال، الآية 67).
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ۚ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. (سورة آل عمران، الآية 161).
ففي هذين الموضعين، لا يدل السياق على وقوع الفعل من النبي، بل يُفهم منه أن الخطاب موجه للأصحاب الذين ارتكبوا تلك الأفعال، وكان الأولى ألا تقع منهم، خاصة بوجود القدوة بينهم، ولهذا قال النص: "تريدون عرض الدنيا".
انطلاقاً من هذا الفهم، يتضح أن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله وتقريره كانت اجتهادية بطبيعتها، سابقة لتنزيل الوحي، فإذا خالفت مراد الله تعالى جاء التصويب من السماء، موجهاً ومصححاً.
وبناءً عليه، فإن كثيراً من الروايات التي وردت بسند صحيح إلى النبي الكريم، قد أُلغيت أو عُدلت أو عُطلت بنصوص القرآن، لا كما يروّج التصور الموروث الذي بلغ من الانحدار مبلغاً زعم فيه أن روايات السنة قد تنسخ آيات القرآن الكريم، متبنّياً لمفهوم النسخ بمعناه الإلغائي التعطيلي.