تمهيد
يُطرح سؤال الدين بين العلم والتقليد باعتباره سؤالاً وجودياً وفلسفياً يرافق مسيرة الإنسان منذ بداياته. فهل الإيمان مجرد وراثة للعرف والتاريخ، أم إنه وعي حرّ يقوم على معرفة وبينة؟ القرآن الكريم، في بنيته الخطابية، لم يقدّم كأداة لتثبيت التقليد، بل هو دعوة للتفكر والتحرر من أسر الوراثة العمياء:
"وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ" (البقرة: 170).
هذه الآية تضع أمامنا معركة بين سلطة العقل والمعرفة من جهة، وسلطة الموروث والتقليد من جهة أخرى.
مفهوم التقليد في الرؤية القرآنية
التقليد ليس مجرد اتباع للآباء، بل هو حالة من الركون إلى الماضي دون مساءلة. القرآن يصور التقليد على أنه شكل من أشكال الجمود العقلي، ويدينه لأن هذا التقليد يلغي حرية الاختيار ويجعل الإنسان أسير هوية موروثة.
فالقرآن يسائل الإنسان: هل أنت مؤمن لأنك اخترت ذلك عن وعي، أم لأنك ولدت في سياق اجتماعي يحتّم عليك اعتناق معتقد بعينه؟ هذا السؤال يكشف أن التقليد يتنافى مع جوهر التكليف القرآني: الحرية والمسؤولية.
العلم في القرآن بديل عن التقليد
القرآن يربط الإيمان الحقيقي بـ"العلم"، لا بالاتباع الأعمى:
"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (الزمر: 9).
العلم هنا ليس محصوراً في التجريب أو الحساب، بل هو إدراك شامل للوجود وللجوهر، يتأسس على التفكر في النفس والآفاق. لذلك يكثر في القرآن الأمر بـ"أفلا تعقلون" و"أفلا تتفكرون"، لتأكيد أن الدين رسالة للعقلاء لا للمستسلمين للتقليد.
العلم القرآني لا يعني أيضاً "امتلاك الحقيقة النهائية"، بل يعني الدخول في سيرورة فهم وبحث، بحيث يصبح الدين حواراً مفتوحاً وجريئاً مع الوجود، ومتمرداً على التقاليد، لا استسلاماً لموروث مغلق.
الصراع بين السلطتين – سلطة النص وسلطة التاريخ
من منظور متدبر للقرآن، يمكن القول: إن الدين في القرآن يحرر الإنسان من سلطة التاريخ، لكنه في الممارسة التاريخية خضع لتأويلات جعلته مع كامل الأسف رهينة للتقليد. وهنا يتولد التوتر: هل الدين هو ما نزل من الوحي مباشرة، أم ما فسره الفقهاء والمفسرون عبر القرون؟
القرآن يفتح أفقاً نحو الحرية والبحث، بينما التقليد التاريخي كثيراً ما يفرض قوالب جامدة. ومن هنا، يصبح الفرق بين الدين القرآني والدين الموروث فرقاً بين فضاءين: فضاء التفكير الحر، وفضاء الطاعة العمياء.
نحو فلسفة قرآنية للدين
إذا قرأنا القرآن قراءة تتوخى بعده الفلسفي، نجد أنه لا يطلب من الإنسان أن يكون تابعاً، بل أن يكون شريكاً في صناعة الجوهر والماهية، فالدين من هذا المنظور ليس مؤسسة مغلقة، بل هو مشروع مفتوح للحرية الإنسانية.
الإيمان الحقيقي ليس ترديد كلمات، ولا القيام بطقوس، بل هو وعي نقدي يتجاوز التلقين. ولذلك فإن الدين بين العلم والتقليد هو في جوهره سؤال عن كرامة الإنسان: هل هو حر في إيمانه، أم مجرد نسخة مكررة من آبائه؟
النتائج:
1. الدين القرآني يلتقي مع العلم في جوهره: دعوة للتساؤل، للبرهان، وللمعرفة.
2. التقليد الديني يقف ضد هذه الروح، لأنه يلغي السؤال ويجعل الإنسان عبداً للتاريخ.
3. الصراع بين العلم والتقليد ليس خارجياً عن الدين، بل هو معركة داخل الدين نفسه: أي دين نريد؟ دين القرآن أم دين الموروث؟
خاتمة
الدين بين العلم والتقليد هو في النهاية سؤال عن حرية الإنسان ومسؤوليته. القرآن يدعو إلى إيمان يقوم على المعرفة والاختيار، لا على الوراثة والانقياد. وبذلك يضع أمامنا تحدياً دائماً: أن نكون مؤمنين أحراراً، لا تابعين مقلدين.
"فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمْ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَٰبِ" (الزمر: 17-18).