إعادة اكتشاف المسيح في القرآن

25-04-2025

شكّل موقف القرآن تجاه المسيح عليه السلام ثورة في الفكر الديني اليهودي والمسيحي؛ فقد نزل القرآن والعداء مستحكم بين أتباع الديانتين، فمن ناحية كانت المسيحية قد انفصلت عن اليهودية وأصبحت ديانة مستقلة في منتصف القرن الثاني الميلادي بعد أن عانى أتباعها الظلم والاضطهاد، ومن ناحية ثانية كان الفكر اليهودي مستمراً في رفضه الاعتراف بالمسيح ورسالته، وبقي متشبثاً بسرديته الإقصائية التي تنظر إليه كنبي "كاذب" يستحق اللعن وما وقع عليه من قتل وصلب! 

وما إن أصبحت المسيحية هي ديانة الإمبراطورية الرومانية حتى تبدلت معادلة القوة والاضطهاد، وتصاعد العداء بين أتباع الديانتين، وبدأ أتباع الديانة الجديدة يمارسون العزل والإقصاء تجاه أتباع الديانة اليهودية؛ ومن أمثلة ذلك ما تضمنته قوانين الدولة الرومانية المسيحية من التضييق على اليهود، كما في قوانين ثيودوسيانوس Codex” “Theodosianus  (438م). وقوانين يوستنيانوس ” Codex Justinianus” (529م).

لقد رفض القرآن الظلم والاضطهاد الديني، وذكَّر البشرية بالأخلاق التي ينسونها في أوقات الحروب والصراعات؛ وذلك عندما تضامن مع أتباع المسيح المظلومين الذين تعرضوا للإبادة في نجران على يد ملك حمير اليهودي يوسف بن شراحبيل (ذو نواس)، بعد أن رفضوا التحول إلى اليهودية قبل مجيء الإسلام، فقال مسجلاً قصة إبادتهم في كتابه الكريم: "وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ. وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ. وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" (البروج: 1-8). وبنفس الأسس الأخلاقية الثابتة، نجد القرآن يدافع عن بني إسرائيل ويرفض ما تعرضوا له من قتل وإبادة لأطفالهم على يد فرعون وجنوده: "نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" (القصص: 3-4).

تتمثل أعظم الإنجازات الروحية والحضارية للقرآن في دعوته لإعادته تكوين العلاقة بين رسالتي موسى والمسيح، بعد أن ضعفت صلة كل منهما بالآخر. فقد نادى القرآن إلى العودة للإيمان بالله الواحد، إيمان إبراهيم الذي يُمثل المشترك الأعظم بين أتباع الشرائع السماوية كلها، وهو إيمان يرفض الانحسار بمركزية عرقية تنحصر بقبيلة مقدسة، ولا يقبل تأليه الإنسان لذاته. 

يصف القرآن المسيح بألقاب جليلة نكاد لا نجد في القرآن نظيراً لها؛ كما في وصفه له بأنه رسول الله، كلمة الله، روح من الله (النساء: 171)، وأنه "وجيهاً في الدنيا والآخرة"، و"من المقربين" (آل عمران: 45)، وهو عبد الله، نبي الله، المبارك، البار، عليه السلام، قول الحق (مريم: 30-34).

ومما يلفت الانتباه في هذه الألقاب أنه ذكر للمسيح أوصافاً جمعت بين سماته الروحية والبشرية؛ فالمسيح هو كلمة الله وروح منه، وهو في الوقت ذاته عبد الله ونبيه ورسوله، وهذا يؤكد الأساس المتفق عليه في شخصية الأنبياء والمرسلين جميعاً ممن بُعثوا لبني إسرائيل أو لعموم الأمم، ومن أجمل ما يؤكد وصف عبودية المسيح لله ما جاء في سِفر النبي أشعيا: "هَذَا هُوَ عَبْدِيَ الَّذِي أَعْضُدُهُ..." (أشعيا 1: 42)، وهو النص نفسه الذي استدل به إنجيل متى على أن عيسى هو المسيح عليه السلام: "لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيِّ أَشعيا: «هُوَذا عَبْدِيَ الَّذي ٱختَرتُه، حَبيبيَ الَّذي عَنهُ رَضِيت..." (12: 17)، فالتأكيد على عبودية المسيح لله هي كلمة سواء تؤكد حقيقة الأنبياء، وتجمع بين المؤمنين الذين اختصموا في حقيقة المسيح.

يجب أن ندرك وجود أسباب عديدة صعّبت فهم حقيقة المسيح على عموم اليهود، وهي: ميلاده الإعجازي (دون أب)، ولغته المجازية (الأمثال الرمزية)، ومعجزاته الكثيرة (وخاصة إحياء الموتى). وهنا تبرز أعظم الدلائل على ربانية القرآن؛ فهو لم ينسب للنبي محمد شيئاً من المعجزات المادية، وإنما نجده يذكر معجزات المسيح ويؤكد عليها. ولو كان القرآن قد جاء به النبي من تلقاء نفسه لابتغى لنفسه المجد أولاً. ومن المعجزات التي ذكرها القرآن للمسيح قوله تعالى: "وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (آل عمران: 49).

ومن أجمل الأوصاف وأدلها على تواضع المسيح، وصف المسيح لنفسه في الإنجيل أنه إنسان وابن الإنسان: "تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله" (يوحنا 8: 40). وقوله: "كل من قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما من جدّف على الروح القدس فلا يُغفر له" (لوقا 12: 10-12). 

ومن الأوصاف الخاصّة التي وصف القرآن بها المسيح هي أنه: "آية للعالمين" (الأنبياء 91). فهذا الوصف العظيم يخرج بمفهوم النبوة من إطاره العرقي المحصور ببني إسرائيل "وفق التصور اليهودي"، ليشمل "وفق التصور المسيحي" الأمم الأخرى والعالم أجمع؛ وهو ما تجسد في الانتشار الكبير للمسيحية في العالم، والتي يُعد أتباعها الأكثر عدداً في العالم كله.

سعى المسيح إلى تهذيب النظرة الفقهية اليهودية وأحكامها من المبالغات والأحكام الكثيرة والمعقدة التي ضيقت على أتباعها. وسعى إلى توجيه الاهتمام نحو الروح والقيم الأخلاقية الأساسية التي ضعفت تحت تأثير التفريعات والتعقيدات التشريعية والطقوسية. كما في نقده لأحكام الطعام المعقدة: "ليس ما يدخل الفم ينجسه ولكن ما يخرج منه". ونقده لحرفيتهم وتشددهم في تقديس السبت وأحكامه: "ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإنسان، لاَ الإنسان لأَجْلِ السَّبْتِ". (مر 2: 27). فالإنسان هو غاية الشريعة وليست الشريعة بحرفيتها هي غاية الإنسان، وجاء القرآن ليؤكد على هذه المعاني التي تعلي قيمة الإنسان وتحد من النزعة الحرفية التحريمية التي اتسم بها الفقه اليهودي: "وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ".

من أعظم معالم الثورة الفكرية التي قام بها القرآن في الفكر الديني هو تأكيده على وحدة أسس النجاة بين أتباع الأديان، وجعلهم على صعيد واحد أمام ميزان العدالة الإلهية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]. فقد حسم القرآن قضية الخلاص بين أتباع الأديان، والتي تسببت بالعداء والكراهية بينهم، قبل أربعة عشر قرناً من قرار المجمع الفاتيكاني الثاني عام (1962-1965)، والذي فتح المجال لإمكانية الخلاص خارج الكنيسة.

أسهم الاختلاف الكبير في الطبيعة اللاهوتية للمسيح بين الطوائف المسيحية في إعاقة قدرة كثير منهم على معرفة القيمة الروحية الكبيرة التي حظي بها المسيح عليه السلام في القرآن. ولكن ورغم ذلك، فقد كانت نظرة القرآن الواضحة للمسيح سبباً في إيمان الملايين من المسيحيين، الذين كانوا يشكلون معظم سكان بلاد الشام والعراق وشمال أفريقيا.

 إن المشكلة الجوهرية التي انتقدها القرآن بخصوص العديد من أتباع المسيحية هي تخليهم عن "المحبة"، التي تُمثل جوهر رسالة المسيح، وانحدارهم إلى العداوة والبغضاء: "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِۚ".

وفي موازاة هذا النقد يُثني القرآن على أتباع المسيح الصادقين الذين يعيشون "المحبة"، ويصفهم بأنهم "الأقرب مودة" وأنهم متواضعون "لا يستكبرون": ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: 82).

وفي آية ثالثة يمتدح القرآن المسيحيين بثلاث صفات أخلاقية وروحية، وهي: الرأفة والرحمة والرهبانية التي تقوم على خشية الله وابتغاء رضوانه، كما في قوله: "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد: 27).

إن استمرار سيطرة السرديات الوهمية على عقول العديد من المجموعات الدينية والاستشراقية الغربية، جعلهم يصنعون صورة ملفقة لنبي محارب يعشق الحروب والقتال. ولكن في مقابل هذه السردية الغربية الاستعمارية لا يزال الخطاب الديني الإسلامي السائد يعاني من وطأة الفهم السطحي للنصوص، ويعطي لأعداء الإسلام أكثر مما يطمحون إليه من أدلة على دعم سرديتهم! وهذا يذكرني بقول أبي حامد الغزالي: "ضرر الدين ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممن يطعن فيه".

ومن معالم التفكير الأسطوري للعقل الديني الغربي حول الإسلام ما زعمه دانتي في الكوميديا الإلهية عن النبي محمد؛ عندما جعله في جحيمه الموهوم بدعوى أن النبي محمد أثار الشقاق والنزاع في تاريخ البشرية. وربما يكون الرد على ما قاله دانتي في كوميدياه هو ما قاله مايكل هارت في كتابه "الخالدون المائة": "لقد اخترت محمداً صلى الله عليه وسلم في أول هذه القائمة؛ لأنه الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على المستوى الديني والدنيوي... ولأول مرة في التاريخ استطاع أن يوحد جميع القبائل التي كانت قبله متناحرة فملأ قلوبهم بالإيمان".

من أعظم معاني الوحدة بين الناس ما نجده في آيات القرآن الداعية للوحدة بين عموم أتباع الأنبياء في قوله تعالى: "إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء: 92)، فقد جاءت الآية، التي يحسبها عموم المسلمين محصورة بأتباع النبي محمد، لتشمل أربعة عشر نبياً مع أتباعهم، بدايةً من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس ويونس وزكريا ويحيى، وانتهاءً بالمسيح، عليهم السلام جميعاً، (الأنبياء: 51-91).

إن التعامل مع الإسلام باعتباره خطراً على العقيدة المسيحية قد حرم مئات الملايين من أتباع المسيح من اكتشاف أهم المعاني الروحية للمسيح في القرآن. ولعل المشكلة الأكبر اليوم تتمثل باستمرار النظرة الغربية القروسطية للمسيحية الغربية تجاه النبي محمد، والتي نظرت إليه باعتباره عدواً للمسيح! والتي تؤكد استمرار استحواذ الفكر الأسطوري على العقل الديني الغربي، والجهل ببدهيات الإسلام، فكيف يمكن لعدو المسيح أن يجعل مئات الملايين من الناس يحبون المسيح وأمه كما يحبون رسول الله وفاطمة؟! 

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

عمل المرأة وشقاء الرجل، عندما يكون التفسير معطلاً للحقوق

د. عامر الحافي

24-08-2025

آراء الكتاب

"العداء الديني" ليس دينياً

د. عامر الحافي

14-05-2025

آراء الكتاب

التأويل وجدلية المحكم والمتشابه

د. عامر الحافي

23-06-2025

آراء الكتاب

فلسفة القوة في ضوء القرآن

د. عامر الحافي

14-07-2025

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة