يُعد أبو هريرة من الشخصيات التي أثير حولها جدل كبير بل الأكبر في تاريخنا الإسلامي، نظراً لكونه مِن أكثر مَن روى عن الرسول الكريم؛ فقد حسب الحاسبون ليجدوا أنه رُوي له 5374 حديثاً في الكتب الستة فقط مع عدم استبعاد المكرر طبعاً، كما أثار الباحثون والمتتبعون أيضاً روايته لغريب الحديث وانفراده بـ42 حديثاً في الكتب التسعة، والعديد من مروياته أيضاً تخالف كتاب الله وتناقضه، والكثير منها يعارض الثابت من العلم، كما يثار استغراب كبير حول تفوق أبي هريرة في الرواية -وهو الذي لم يصحب الرسول إلا ثلاث سنوات على أفضل تقدير- على الكثير من الصحابة الذين صحبوا الرسول منذ فجر الدعوة، كأبي بكر وعلي وفاطمة الزهراء وعثمان وزيد بن ثابت وأنس وعمار بن ياسر، وغيرهم من الصحابة الذين سبقوا أبا هريرة بردح كبير من الزمان، فوقف فريقان من أبي هريرة موقفين متناقضين؛ الفريق الأول، وهو الفريق المقدس للصحابة بحيث لا يُجيز إخضاعهم لمنطق الجرح والتعديل، وبالتالي فكل ما صدر عنهم فهو العلم، وإن خالف كتاب الله، وبالتالي فهم يقدسون أبا هريرة ويمنعونك من الرفض أو الشك أو حتى التكلم فيه بغير المدح والتقريظ والتبجيل.
وأما الفريق الثاني فقد اتهم أبا هريرة بالكذب على الرسول، واختلاق أحاديث لتزوير الإسلام، وقد اتهمه الصحابة ومنهم عائشة وعمر بإكثار الرواية عن الرسول الكريم، بل إن عمر بن الخطاب منعه من التحديث عن الرسول وهدده بالنفي من المدينة وإلحاقه بمسقط رأسه، وبالتالي فهذا الفريق رفض رفضاً قاطعاً الأخذ عن أبي هريرة.
والحقيقة أني كنت مع الفريق الثاني قبل أن يلمع في فكري سؤال: هل كان أبو هريرة شخصية حقيقية فعلاً، أم هو مجرد شخصية خيالية، أسطورية، صنعها آخرون كي ينسبوا إليها ما يريدونه، وما يبتغون تحقيقه، بعد أن سيجوها بهالة التقديس والتبجيل؟ وما جعلني أطرح هذا السؤال المشكك، هو بروز مجموعة من الأمور حول هذه الشخصية التي تعتبر الأكثر إثارة للجدل في تاريخنا، وسأشركك أيها القارئ الكريم فيما تحصل لدي من معلومات، وما وصلت إليه من نتائج:
الاختلاف في اسمه واسم أبيه
لم يتم الاختلاف في اسم صحابي كما تم الاختلاف في اسم أبي هريرة واسم أبيه؛ فقيل اسمه عبد الرحمن بن صخر وقيل بن غنم وقيل عبد الله بن عائذ وقيل بن عامر وقيل بن عمرو وقيل سكين بن رزمة بن هانئ وقيل بن ثرمل وقيل بن صخر وقيل عامر بن عبد شمس وقيل بن عمير وقيل يزيد بن عشرقة وقيل عبد نهم وقيل عبد شمس وقيل غنم وقيل عبيد بن غنم وقيل عمرو بن غنم وقيل بن عامر وقيل سعيد بن الحارث، وقيل غير ذلك من الأسماء، وقد قال هشام بن الكلبي: اسمه عمير بن عامر بن ذي الشرى بن طريف بن عيان بن أبي صعب بن هنيد بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، وهكذا قال خليفة في نسبه إلا أنه قال عتاب بدل عيان ومنية بدل هنيد، ويقال كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود.
من هو إذن أبو هريرة الحقيقي من هذه الأسماء الكثيرة؟ وكيف نقبل بوجود شخص مع الاختلاف فيمن يكون؟ إن كل اسم يحكي شخصية مستقلة، فأين شخصية "أحفظ" الصحابة من هذه التراكمات في الأسماء والشخصيات؟ وكيف يمكن أن نتصور بأن أحد أكثر وأشهر المكثرين في الرواية عن الرسول لا يعرفه حتى من رووا عنه؟! وهل يمكن أن يرووا عنه حديث رسول الله دون أن يعرفوا اسمه أو اسم أبيه الحقيقيين؟ إنها معضلة تستفز ذكاءنا وتجعلنا نستغرب ونتساءل بدورنا عمن يكون أبو هريرة، وينسب للبخاري في الصحيح بأن أبا هريرة روى عنه نحو ثمانمائة من الرواة، منهم صحابة وتابعون، غير أن أياً من هؤلاء لم يذكر الاسم الحقيقي لأبي هريرة، ولا اتفقوا على اسم أبيه وحتى اسم أمه، عجبي!
وهذا العجب ينبع من كون العرب اهتمت بالأنساب، تفاخراً بها وتناجزاً، بل نبغ من بينهم متخصصون في الأنساب يطلق عليهم "النسابة" وصلوا إلى معرفة أزيد من أربعين جداً، ومع ذلك فإن هؤلاء لم يستطيعوا معرفة نسب أهم شخصية في الرواية عن رسول الله عبر تاريخنا الإسلامي، وهذا أمر يحتاج إلى أكثر من وقفة!
الصحابة لا يعرفون أبا هريرة
إن الدارس للتراجم والسير التي اهتمت بترجمة أبي هريرة، يعرفون أنه لا يُعرف عنه إلا ما تحدث به عن نفسه، لذلك لا نجد إلا معلومات شحيحة عن شخصيته، مستخلصة مما يرويه عن نفسه، فهو شاهد نفسه، وتلك أغرب شهادة في التاريخ، وبالتالي فإن الصحابة لم يذكروا أي معلومة هامة عن هذه الشخصية، وكأن الأرض قذفته من قلبها دون سابق إنذار ولا إخبار، لتُخرج لنا شخصية غامضة، لا ملامح لها ولا منابت.
وهنا يبرز السؤال المجهري: لو كانت شخصية أبي هريرة حقيقية، عاشرها الصحابة، وكان لها هذا التميز في حفظ الحديث، وأنها شخصية باركها الرسول، فكانت لا تنسى أبداً، ومع ذلك لم يتحدث عنها الصحابة بما يكفي وبما يتناسب مع محوريتها وجلالتها، وهنا أريد أن أشير إلى أن الرواة نسبوا للرسول نسيان القرآن، بينما نزهوا أبا هريرة عن نسيان الحديث، فهو أكثر عصمة في الحفظ من الرسول! حاشا رسول الله.
إن الإخباريين الذين تتبعوا أبا هريرة منذ إسلامه في السنة السابعة للهجرة يسجلون غيابه عن أهم الأحداث التي عرفتها الدولة الإسلامية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياة الرسول، وهي السنوات التي عاشها -كما يزعم الزاعمون- أبو هريرة مع الرسول، فقد غاب عن غزوة خيبر، كما في سير أعلام النبلاء للذهبي، وغاب أيضاً عن عمرة القضاء، وغزوة مؤتة، كما في البداية والنهاية لابن كثير، وبعدها انقطعت صحبته للرسول بعدما خرج إلى البحرين ومكث فيها إلى ما بعد وفاة الرسول، وبهذا الاعتبار يكون عدد الشهور التي قضاها أبو هريرة صحبة الرسول ستة عشر شهراً فقط، أي أقل من سنة ونصف، وهنا يبرز سؤال آخر: كيف يكون أبو هريرة صحابياً، ويكون شخصية حقيقية أسست للأحاديث النبوية، من حيث الحفظ الذي سهل عملية التدوين فيما بعد، وتغيّب عن كل هذه المشاهد الهامة؟ إذ كل المؤشرات لحد الآن تشير إلى أننا أمام شخصية هلامية مطاطية يمكن أن نقول بشأنها ما شئنا، ونكيفها حسب الظروف والملابسات، والأغرب من كل هذا أن شخصية أبي هريرة لم تظهر خلال خلافة أبي بكر، ولا زمن خلافة عمر إلا بعد مرور ثماني سنوات على هذه الخلافة، فأين كان أبو هريرة خلال هذه المدة الطويلة مختفياً؟ ولماذا كانت شخصيته خاملة غير نشيطة طيلة هذه السنوات؟ وكيف برزت فجأة؟ ولماذا؟
إن ما أثرته اليوم حول أبي هريرة ليدعونا جميعاً إلى القيام بدراسة عميقة حول شخصيته للتأكد من: هل كانت فعلاً شخصية حقيقية أم هي مجرد شخصية وهمية أريد بصنعها الوصول إلى تزييف وتحريف ديننا؟ فالأمر جدير بالبحث والتدقيق، لتحري الحقيقة التي لا تترك لك صديقاً. أسئلة طرحناها لنخلص إلى أن هناك غموضاً كبيراً يلف شخصية هذا الذي وُصف بالحفظ الأسطوري، وتفوق على النبي في ذلك حسب اعتقاد بعضهم، وروى روايات كثيرة، منها ما يحط من قدر النبي والنبوة، ومنها ما يتعارض مع كتاب الله، ومنها ما يتعارض مع العلم، ومنها ما يمتح من الإسرائيليات.