لا يمكـن أن نناقش (السنة النبوية) دون أن نبحث وننقب في الحديث وظروف تدوينه بشكل عام، وكيف نشأ ما أُطلق عليه من بعد «علم» الحديث، حيث يظن عوام الناس أن الحديث وحي كان مرادفاً للقرآن من حيـث النـزول، وأن الرسول أمر بتدوينه إلى جانب القـرآن، غير أن الحقيقة غير ذلك، فقد حكى العديد من رواة الحديث أنفسهم منع رسول الله صحابته مـن تدوين كلامه، ونحن بعجالة سنورد بعض الأحاديث التي يعتبرها المحدثون صحيحـة، والتي تمنع تدويـن الأحاديث، كما سنورد بعض الآثار عن الصحابة والخلفاء الراشدين من بعده، تبرز كيف حافظوا على طاعة أمر الرسول في منع كتابة الحديث.
فقد روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي من حديث عن أبـي سعيد الخدري أن رسول الله قـال: "لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه".
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: "جهدنا بالنبي صلى الله عليـه وسلم أن يـأذن لنا في الكتابة فأبى". (4/2298) كتـاب الزهد والرقائق باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلـم، من طريق زيد بن أسلـم، عن عطاء بـن يسار، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله.
وقد سار الخلفاء الراشدون على نفس النهـج في عدم كتابة الحديث، حيث ورد في تذكرة الحفاظ للذهبي "من مراسيل ابن أبي مليكة" أن أبا بكر الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننـا وبينكم كتـاب الله. تذكرة الحفاظ 1: 2 3، حجيـة السنة: 394. وفي رواية عـن طريق مالك بـن أنس أن عمر قال عندما عدل عن كتابة السنة: "لا كتاب مع کتاب الله". 590، وأخرج الحافظ ابن عبد البر بثلاثة أسانيد في جامع بيان العلم والحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ عن قرظة بن كعب أنه قال: "لما سيرنـا عمر إلى العراق مشى معنا عمر إلى صرار، ثم قال: أتدرون لم شيعتكم؟ قلنا: أردت أن تشيعنا وتكرمنا. قال: إن مع ذلك لحاجة، إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهـم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككـم، قال قرظة: فما حدثت بعده حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وورد في طبقـات ابن سعـد: "أن الأحاديث كثرت على عهـد عمر بن الخطاب فأنشـد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بهـا أمر بتحريقها"، الطبقات الكبرى لابن سعد، رقم الحديث 5987.
وروى الحافظ ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة، أن عمر أراد أن يكتب الســنن فاستشار أصحاب النبي -كمـا عند البيهقي- فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفـق عمر يستخير الله شهراً، ثم أصبح يوماً وقـد عزم الله له، فقال إني كنت أريـد أن أكتـب السنن، وإني ذكرت قومـاً كانوا قبلكم كتبوا كتبـاً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً. وفي رواية البيهقي: "لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً". المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي رقم الحديث 590.
وفعلاً من هنا جاءت آفة الحديث، وصدق تكهن عمر بن الخطاب، فكل الشيوخ والفقهـاء ومنذ أن بدأ عصر التدوين، إلى يـوم الناس هذا، انكبوا على الحديث وهجروا كتاب الله، لصالح مرويات ظنية الثبوت في غالبيتها.
وفي تاريخ ابن عساكر ورد عن عثمان بن عفان أنه قال: "لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر". (تاریخ دمشق لابن عساكر رقـم الحديث 40116، مشياً على ما نهجه الخليفتان من قبله في عدم تدوين كلام الرسول).
هذا غيض من فيض الأحاديث والآثار التي تدل دلالة قطعية على منع الرسول أصحابـه من تدوين كلامه، بل إن المنع بلغ درجة التشديد، من خلال النصوص التي أوردناها، وكعادة كل روايات تاريخية خاضعـة لأهواء البشر ومصالحهم، وأهدافهم الشخصية، تم إيجاد وصنع أحاديث أخرى تأذن بتدوين كلام الرسول، رغـم أن الاضطراب واضـح والتناقض جلي بين نصوص الحديث المشددة على منـع كتابة كلام الرسول، وبين النصوص التي تجيز الكتابة، ورغم أن الكثير من المحدثين حاولوا جاهدين تبرير هذا التناقض الواضح، إما عن طريق تضعيف بعض هذه الأحاديث المشددة على المنع، أو الاستنجاد بالنسخ مَهرباً، غير أن أحاديث منع التدوين والكتابة تبقى هي الأقوى والأكثر حضوراً، وهذا ما يفسر إعراض الخلفاء الراشدين ومعهم جمع غفير من الصحابة عن تدوين الحديث.
وهنـا ارتأيت أن أنقل لكم مـا أورده المفكر المصري محمود أبو رية رحمه الله، في كتابه «أضواء على السنة المحمدية» نقلاً عن الفقيه المحدث رشيد رضا رحمه الله، صاحب المنار، في الموازنة والمقارنة بين أحاديث منع كتابة الحديث، والأحاديث المجيـزة له؛ قال رشيد رضا: «إن أصح مـا ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمـد في مسنده ومسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم، وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، وإن أصح ما ورد في الإذن، حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعاً: "اكتبـوا لأبي شاه" وهو لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مراد به ألا تتخذ دينـاً عاماً كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها النبي يوم فتح مكة، موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا من بيانه صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن الذي صرح به يوم الفتح، وصرح به في حجة الوداع وأمر بتبليغه، فهو خاص مستثنى من النهي العام. وقد صرح البخاري في بـاب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمنـي طلب أن تُكتب له الخطبة المذكورة، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بإجابة طلبه» انتهى.
إذن فحسـب تحليل الفقيه المحدث رشيد رضا، فإن المنع ينصب بالأساس على تدوين كلام الرسول على أساس أنه دين؛ إذ لا وحي إلا القرآن، ولا كتاب أُنزل إلى الناس باعتبـاره وحياً إلا كتب الله المنزلة على أنبيائـه والتي منها القرآن، بالإضافة إلى أن بيان الرسول الذي ألقـاه بخصوص فتح مكة، هو بيان سياسي لقائد دولة وليس لرسول، فلا وجود للرسالة في خطبته إلا من حيث البيان.
وهكذا، فقـد تحـول تدوين الحديث إلى آفة، جعلت المسلمين يبتعدون عن الله، وأصبح التشريع يؤخذ بالأساس من الحديث بدل القرآن، فانشغل الناس بالحديث وجمعه والاستنباط منه، في حين لم يعد للقرآن دور إلا في الاستشهاد للنص الحديثي، فغدت المرويات البشرية هي أساس التشريع، وهي الديـن، رغم أن هناك منعاً من طرف الرسول واضحاً من تدويـن هذه المرويات، حيـث إن الله لم يتكفـل إلا بحفظ كتابه الموحَى إلى عبـده ونبيه، فيسهل على ذوي النفوس الخبيثة أن تـزور وتغير في الدين كيفما شاءت وتشاء، تحت مسمى السُّنة أو الحديث، وهذا سيُحيلنا على أمر هام جـداً، وهو: كيف يخالف أنصار الحديث النصوصَ الحديثية الواضحة التي أمامهم؟