صناعة النبوءة في الرواية بين التوثيق والوظيفة

22-06-2025

يشكل الحديث النبوي أحد أهم مصادر المعرفة في التراث الإسلامي. غير أن بعض الروايات المصنفة ضمن "باب الفتن والملاحم" أو "علامات الساعة" تتضمن طابعاً نبوئياً، يروي فيه النبي عليه الصلاة والسلام تفاصيل دقيقة عن أحداث قادمة، شخصيات مستقبلية، تحولات سياسية، وصراعات مذهبية، وهنا تبرز إشكالية معرفية: 

هل كانت هذه "نبوءات" فعلاً، أم إن كثيراً منها هو إعادة سرد لتاريخ وقع بالفعل ثم جرى وضعه في فم النبي عليه الصلاة والسلام بأثر رجعي؟

لنأخذ مثالاً على ذلك رواية الافتراق

"تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة".

رواه الترمذي وغيره، وحسنه الألباني.

هذا النص يحوي بُعداً "نبوئياً" يُشعرك أن النبي تنبأ بمستقبل الأمة، لكنه أيضاً يُستخدم لتبرير الانتماء لطائفة معينة وإقصاء الباقين. ولذلك فإن هذا النص لم يُستخدم كمعطى غيبي بقدر ما استُخدم كسلاح مذهبي.

والملفت للانتباه أن الروايات تتعدد في تسمية "الفرقة الناجية"، وتختلف بحسب الراوي وانتمائه كالمعتزلة والشيعة والسنة.. إلخ، مما يؤكد أن الرواية ليست نبوءة محضة، بل "أداة صراع". وقد قمنا بمناقشة هذه الرواية المصنوعة من منظور آخر في مقال سابق حمل عنوان (الطائفة المنصورة مَن تعمل صالحاً) مؤكدين على مبدأ العمل، لا الانتماء الطائفي.

مثال آخر:

"إن لكل أمة مجوساً، وإن مجوس أمتي يقولون: لا قدر، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم". رواه أحمد وغيره، وحسنه الألباني.

هذه رواية تصنف فرقة كاملة ضمن قالب شيطاني، على نحو لا يمكن فصله عن الصراع الفكري بين الفرق. فهل كان النبي عليه الصلاة والسلام ينطق بهذه التصنيفات حقاً، أم إن هناك مقولات مذهبية لاحقة نُحتت وأُسندت إليه زوراً لإضفاء المشروعية؟

وأشير هنا إلى مقولة للإمام أحمد بن حنبل مبرراً فيها روايته عن المبتدعة من الفرق الأخرى قائلاً: "إذا تركنا الحديث عن أهل الكوفة لأنهم شيعة، وتركنا الحديث عن أهل البصرة لأنهم قدرية خربت الكتب". وهذا يحمل تناقضاً منهجياً بين وصفهم بمجوس الأمة وبين أخذ الروايات عنهم. فتأمل!

ومن الإشكالات أن كثيراً من النبوءات تُنسَب إلى النبي في سياق تفصيل دقيق لأحداث لاحقة، مثل الأرقام، اسم المكان، اسم شخص، تسلسل الفتن.. إلخ، وهذا يخالف طبيعة الخطاب في القرآن، الذي يُعرض عن التفاصيل الدقيقة -والتي نلاحظها كَسِمة عامة في العهد القديم- ويُركز على القِيم والسنن، لا على النبوءات الزمنية.

فمثلاً رواية في البخاري تقول:

"ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار".

قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" معلقاً على هذه الرواية: 

"وهذا الحديث من دلائل النبوة؛ حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين، وعمار مع علي وأهل العراق، كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه، وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية".

واضح أن هذه الرواية وأمثالها كثير قد كُتب بأثر رجعي، والقصد منها نصرة فئة على أخرى لكن بثوب نبوءة، ومع ذلك شرع الشراح للرواية، كابن كثير وابن حجر وابن تيمية وغيرهم، فقاموا بلي عنق النبوءة وجعل الفئتين المتقاتلتين على حق، وأن ما حدث كان اجتهاداً، وأن الصحابة جميعهم عدول سواء من لابس الفتن أو من اعتزلها. 

فهل يُعقل أن يُعطى الغيب بهذا التفصيل لرجل من البشر، ثم لا يُذكر إلا في كتب الروايات الآحادية الظنية المعنعنة والتي دوِّنت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بدوافع شخصية من مؤلفيها أو بإرادة من السلطان.

في المحصلة، لسنا هنا بصدد نفي إمكانية أن يوحي الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ببعض الغيب، فهذا وارد في سياقات قرآنية محددة. لكن تحويل النبوة إلى موسوعة "تنبؤات مفصلة" يفتح باباً واسعاً لاختراق عقل المسلم، وتحويله إلى وعاء يتلقى الصراعات المؤدلجة باسم الغيب. وهذا ما يتطلب وقفة نقدية لتفكيك الوظائف السياسية والعقائدية والمذهبية.. إلخ، الكامنة خلف ما يُعرض على أنه حديث نبوي، والنبي بريء منه.

الأكثر قراءة

آراء الكتاب

الاختلاف في الوحي ليس من الله

غسان النبهان

19-09-2024

آراء الكتاب

حاكمية الإنسان وحاكمية الله

غسان النبهان

01-09-2024

آراء الكتاب

الفِرقة الناجية مَن تعمل صالحاً

غسان النبهان

14-09-2024

آراء الكتاب

التعددية وضوابطها في القرآن

غسان النبهان

01-09-2024

اقرأ المزيد

آراء الكتاب

من كيس أبي هريرة

رشيد إيلال

25-05-2025

آراء الكتاب

تجريح الرواة وتعديلهم بالأحلام والمنامات

رشيد إيلال

03-06-2025

آراء الكتاب

كذبة الإجماع على صحيح البخاري!

رشيد إيلال

25-06-2025

آراء الكتاب

زواج المسلمة بغير المسلم رؤية قرآنية

رشيد إيلال

07-07-2025

ارسل بواسطة