في ظل أجواء التحولات التي يشهدها العالم العربي، من تطورات وتداعيات فكرية وثقافية وحضارية، يقدم الباحث العراقي باسم الماضي الحسناوي، عبر كتابه "إشكالية المثقف الديني بين سندان التقليد ومطرقة الحداثة"، قراءة نقدية يحرص خلالها على تفكيك علاقة المثقف بشكل عام، و"المثقف الديني" بشكل خاص، بالمؤسسة الدينية.
يؤكد الحسناوي وجود أزمة لدى المثقف الديني في مجتمعه، ومع المؤسسات الدينية بشكل عام، والرسمية منها بشكل خاص. ويرصد ملامح هذه الأزمة، ويجتهد في كشف أسبابها وما تضعه هذه الأسباب من عوائق أمام المثقف الديني، مثل كيفية تعامل المثقف الديني مع ثنائية "التقليد والحداثة"، والأزمة المجتمعية التي يعانيها. ومن خلال رصده هذه الأزمة يُقدم صياغة مفاهيمية لدور ووظيفة المثقف الديني، وكيفية تعامله مع الأزمات الفكرية والمجتمعية والحضارية، التي تعوقه عن أداء دوره الطبيعي العقلاني الناقد والمبدع.
مثقف فاعل
يتجاوز دور المثقف الديني حمل المعرفة الدينية فقط إلى الاشتغال بالمعرفة الدينية من الناحية النقدية والثقافية والفكرية في الحيز الاجتماعي المحيط، وفقاً للمؤلف الذي يقسم المثقف الديني إلى:
- المثقف العضوي: وهو المثقف الديني الذي يرتبط بالناس والمجتمع وأفراده وقضاياهم ويسعى إلى إيجاد حلول مبدعة لها.
- المثقف الرسمي: وهو المرتبط بالمؤسسة الدينية التي يدور في فلكها، ولا يتجاوز إنتاجه الفكري والعقلي الخطوط العريضة التي ترسمها المؤسسة الدينية، ويتجاهل ما هو خارج عن الدائرة التي تضعها تلك المؤسسة، ما يجعله لا يدخل في صفات المثقف الديني الحقيقي.
يقول الكاتب إن المثقف الديني ليس ناقلاً للمعرفة، بل يجب أن يكون فاعلاً نقدياً يمتلك مشروعاً ورؤية، ولا يجب أن ينشغل في عملية تطويع معرفته الدينية لخدمة مفهوم التقليد والمؤسسات التقليدية، التي تسعى لوأد أي إبداع وتجديد ديني حقيقي؛ لذا يجب على المثقف الديني أن يفهم الفارق بين إنتاج المعرفة الدينية وفق شروط المؤسسات التقليدية، وبين محاولة نقد هذه المعرفة ومساءلتها ومجادلتها حتى يحق له وصفه بـ"المثقف الديني".
استقلال فكري
يرفض الحسناوي اختزال دور فعل المثقف الديني في الخطاب التقليدي للمؤسسات الدينية، ويشدد على أهمية استقلاله فكرياً، ويضع له ثلاثة ميادين للعمل الفكري والديني، وهي المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي مجالات يعاني فيها من عزلة بسبب الضغوط التي يتعرض لها، ومواجهة التقليدية في محاولته التأويل واستنباط معانٍ جديدة، تتناسب مع العصر الحديث والانفتاح المعرفي.
ورغم ما يعانيه المثقف الديني في المجالات السابقة، فإن الكاتب يشدد على أهمية استقلاله وعدم خضوعه للمؤسسات الدينية والتقليدية، حتى لا يفقد هويته الفكرية وقدرته على التأثير، ويصبح أسيراً لخطاب التقليد والجمود؛ منتقداً استحواذ المؤسسات التقليدية على المشهد العام، ووضعها العراقيل أمام المثقف الديني حتى لا يتمكن من التعبير عن آرائه النقدية.
ويرى الحسناوي أن المؤسسات التقليدية والدينية الرسمية وضعت "تابوهاً" محظوراً أمام خطابها التقليدي، وأحاطته بالقداسة والتحريم فلا يمكن نقده أو تفكيكه، ولا تحدث إعادة نظر وتقديم قراءة جديدة نقدية عقلية للمفاهيم الدينية التي يستخدمها هذا الخطاب، ما يُغلق باب الاجتهاد الحقيقي أمام مفاهيم اتسمت بالقداسة مثل التراث، وبالتالي فلا يمكن تحقيق أي تجديد ديني.
ويدعو الكاتب إلى تجاوز ثقافة المنع والتقديس في الخطاب الديني، ما يُعطل التجديد، ويشدد على أهمية فتح نقاش حول أهمية وضع الإبداع في الفكر الديني في مركز العملية الدينية، ما يجعل من السهل تحطيم "التابوه المقدس"، الذي وضعته المؤسسات التقليدية والدينية والرسمية حول خطابها الديني؛ وبالتالي إتاحة الفرصة إلى إيجاد قراءة جديدة تتسم بالنقدية ومراعاة الظروف والتطورات الاجتماعية والزمانية والمكانية المستمرة التي فرضها السباق الحضاري.
آفاق تعددية
من أهم آليات المثقف الديني الحوار مع الآخر المختلف، سواء المختلف حضارياً "الحضارة الغربية"، أو المختلف دينياً "الأديان السماوية الأخرى"، أو المختلف مذهبياً أو فقهياً، لما للحوار من فائدة في فتح أفق جديد وتعددية دينية وفكرية وحضارية، يمكن استيعابها في المشروع الحضاري، حسب الحسناوي، الذي ينتقد "الخطاب الإقصائي الذي تتبناه المؤسسات التقليدية وبعض المثقفين التقليديين"؛ ويرفض الانغلاق الديني والسلوك العدائي والدفاعي ضد الخطابات المغايرة، مشدداً على أهمية الانفتاح عليها ومحاولة عمل "مقاربة معرفية"، مؤسسة على الاعتراف المتبادل والتفاعل دون إقصاء، ما يمكن من إعادة صياغة علاقة المثقف الديني بالآخر، على أساس التكافؤ والتفاعل، ويعود بالإيجاب على المجتمعات العربية.
ووفقاً للمؤلف، تعاني هذه المجتمعات العربية الجمود التأويلي الذي فرضه التقليد بتجلياته الفكرية والمؤسساتية، وهو ما يمثل أزمة لدى المثقف الديني المعاصر، الذي يجب ألا يكون ناقلاً لتفسيرات سابقة، فلا يتجاوز دوره التقليد أو التزام دائرة التقليد والجمود، بل يجب أن يكون مبدعاً في تعامله مع النصوص السابقة ولا يتحول إلى شارح للنص، بل يجب أن يكون مفسراً له، مستعيناً بذلك بالنقد والتحليل العقلي والإبداع في استنباط قيم جديدة ومفاهيم حديثة، حتى يمكن التغلب على القراءة الفقهية التقليدية للنصوص.
شجاعة فكرية
ويدعو الحسناوي إلى أهمية الاستفادة من مناهج التأويل الحديثة، كالهرمنيوطيقا، في استجلاء المعاني الجديدة وقراءة النص الديني على نحو يُنتج معنى جديداً، ولا يعيد إنتاج وتدوير وتقديم المعنى القديم دون تجديد حقيقي يتناسب مع الظروف العصرية، رافضاً قطعية وتجاهل أدوات ومناهج التأويل المعاصرة.
يدعو المؤلف إلى ضرورة التفريق بين من يتبنّى خطاباً يبرر الواقع باسم الدين، وبين من يسعى لتغييره من داخل الدين، فلا يجب على المثقف الديني أن يكتفي بتكرار المقولات التقليدية والمؤسسية؛ إذ لا يمكن أن يحدث تغييراً أو تحولاً، ويكتفي بتبرير الواقع عبر خطاب ديني تقليدي يتسم بالجمود.
ويؤكد الحسناوي أن المثقف الديني يجب أن يكون مشروعاً تحولياً، يمثل تغييراً حقيقياً يتجاوز الوصف والتبرير، فلا يجب على المثقف الديني أن يستخدم أدواته لتمرير وتبرير وإعادة تدوير الخطاب التقليدي وخطاب المؤسسات الدينية الجامد، الذي يبرر ما في المجتمع من عيوب وأخطاء، الأمر الذي يستلزم شجاعة فكرية واجتماعية من المثقف الديني الذي يرغب في التغيير والتجديد وإفادة المجتمع.
الدين والتحديث
يتناول المؤلف مفهوم "التحديث" من منظور ديني، ويؤكد أن رفض التحديث بحجة أنه غربي الطابع هو موقف غير علمي. ويطالب بإعادة قراءة المفاهيم الإسلامية الكبرى (كالاجتهاد، والأمر بالمعروف، والعدل)، بطريقة تسمح بتوليد نماذج تحديثية أصيلة من داخل الثقافة الإسلامية، كما يشدد على أهمية تجاوز الفهم الفقهي الجامد، وتبني مناهج جديدة تعيد إنتاج الخطاب الديني في ضوء متطلبات العصر.
ويركز الحسناوي على العلاقة بين الفكر الديني والتحديث، ويرى أن التحديث عملية معرفية داخلية لا يضرها الاستعانة بالأدوات اللازمة، ما يحقق حداثة حقيقية؛ ويرفض التبعية الفكرية واستنساخ النموذج الغربي بما لا يتناسب فيه مع المجتمعات العربية ويؤدي إلى التغريب، مؤكداً أن الإسلام يمتلك إمكانات داخلية للتحديث، من خلال مفاهيم مثل الاجتهاد، والعدل، والعقل، التي يجب إعادة النظر في الفهم التقليدي لها، كما يجب إعادة النظر في النمط التقليدي للفقه الذي يعيد إنتاج الفتاوى نفسها في ظروف متغيرة.
وختاماً، يؤكد الحسناوي على إمكانية تجدد الإسلام من داخله، وأن التحديث ليس خيانة للتراث، بل ضرورة لتفعيله، عبر الجمع بين "روح التراث ومتطلبات العصر"، ما يسهم في بناء مشروع حضاري جديد يُحرر الهوية العربية من جمودها، ويجعلها "هوية تفاعلية" تتيح التعدد وتعيش في أفق الحوار مع الآخر دون ذوبان فيه، ما يؤسس لمرحلة فكرية جديدة لعلاقة الدين بالحداثة، يلعب فيها المثقف الديني دوراً فاعلاً وحاسماً.