"كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة، فهو إذاً موروث وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات".. هكذا يعرّف الدكتور حسن حنفي، المفكر المصري، التراث في مطلع كتابه المعنون بـ"التراث والتجديد.. موقفنا من التراث القديم"، والذي صدرت طبعته الأولى في القاهرة، عام 1980، عن "المركز العربي للبحث والنشر".
ويرى "حنفي" أن التراث هو البداية من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، أما التجديد فهو إعادة تفسير التراث طبقاً لمعايير العصر واحتياجاته.
مستويات التراث
يقسم الكاتب التراث إلى مستويات: فهو، أولاً، تراث موجود في المخازن والمكتبات والمساجد والدور الخاصة، يُعمل على نشره واستدعائه وإعادة جمعه وطبعه؛ وهو، ثانياً، وجود على المستوى النفسي للجماهير؛ إذ إن التراث القديم ليس قضية دراسة للماضي العتيق الذي نزوره في المتاحف، بل هو جزء من الواقع/واقعنا ومكوناته النفسية.
ويرى حنفي أن التراث ليس قضية دينية، ولكنه قضية وطنية تمس حياة المواطنين وتتدخل في شقائهم أو سعادتهم، والدافع إلى التجديد ليس عاطفة التقديس والاحترام الواجبة لكل موروث ديني، بل انتساب الإنسان المجدد إلى أرض وانتماؤه إلى شعب.
التراث في نظر الكاتب "حضارة، والحضارة ناشئة بفعل الزمان والمكان، وكل ما في التراث ليس في الدين، وكل ما في الدين ليس في التراث، فقد ظهر التأليه والتجسيد والتشبيه في التراث ولم يظهر في الدين، وظهر الجبر في التراث ولم يظهر في الدين".
ويؤكد الكاتب أن مهمة تجديد التراث لا تقع على عاتق فرد واحد، بل هي مهمة طليعة المثقفين وجمهور الباحثين، نظراً لتعدد جوانب التراث وحاجته إلى باحثين متخصصين.
إلا أن الكاتب يُشير إلى ضرورة وجود "حالة توافق"، ويعني بها الأخذ من القديم ما يتفق وروح العصر، وإرجاع الجديد لمقاييس القديم، ويصف ذلك بأنه "موقف شرعي" نظرياً يود أن يستوعب مزايا الطرفين ويتخلى عن عيوبهما.
وقد بقيت مشكلة التوفيق بين التراث والتجديد في حاجة إلى دراسة، وتحديد الصلة الدقيقة بينهما بنظرة علمية بعيدة عن كل خطابة، أو تحقيق أي مصلحة شخصية، وهنا ظهر تجديدان:
- تجديد من الخارج، وذلك عن طريق انتقاء مذهب أوروبي، بحسب الكاتب، ثم قياس التراث عليه، ورؤية هذا المذهب المنقول في تراثنا القديم وقد تحقق من قبل، ومن ثم نفتخر بأننا وصلنا إلى ما وصل إليه الأوروبيون المعاصرون قبل أكثر من 10 قرون.
- تجديد من الداخل: ويعني إبراز جوانب التقدمية في تراثنا، تلبيةً لحاجات العصر من تغير اجتماعي، فتبرز الاتجاهات الاقتصادية في الملكية العامة وفي تنظيم الزكاة، أو نظريات التراث في القانون، لكن كلا التجديدين، بحسب الكاتب، عبارة عن محاولات جزئية تُظهر جوانب تقدمية في التراث ولا تعطي صورة عامة له وإعادة بنائه طبقاً لحاجات العصر.
التجديد والتنمية
ويؤكد حنفي أن أزمة تجديد التراث ما هي إلا ردة فعل لما حدث من تغيير اجتماعي لعصر جديد؛ إذ تتعثر، بنظر الكاتب، عملية التجديد مصطدمةً بحواجز التراث كمخزون نفسي لدى الجماهير.
يقول الكاتب إن البعض حاول التغيير عبر القديم وقيمه باعتبار الواقع الحالي عالماً جاهلاً، فيما هناك تغيير بواسطة الجديد، والتشدق بألفاظ صعبة التداول لدى الجمهور، ما يضفي على القائلين به صفة التعالم والتعالي على واقع لا يجيد مثل هذه المصطلحات النظرية، الضرورية بالطبع في شكلها الأكاديمي، لكنها على مستوى التطبيق تنفّر الجمهور من كل جديد، فيما الفريق الثالث يحاول التغيير بواسطة القديم والجديد، لكن هذا النهج، بحسب الكاتب، يقع في فخ غياب المنهج العلمي والأساس النظري الذي يمكن إحداث بناء التغيير عليه في المجتمع.
ويلفت الكاتب إلى أن قضية تجديد التراث جزء من العمل الأيديولوجي للبلاد النامية، التي تبحث في معوقات التنمية، ووضع أسس جديدة لتطوير الواقع، فهي تحاول البحث عن شروط أولية للتنمية وتلبي حاجة ملحة لها وتكمل نقصاً بدأت تشعر به البلاد، وهو عدم الاعتناء بتنمية العنصر البشري.
فالتراث والتجديد، بحسب حنفي، محاولة لتحقيق متطلبات العصر للبلاد النامية من الناحية العملية والنظرية، والتغلب على مآسيه ودفع التنمية نحو خطوة أخرى نهضوية.
ولكي يتحقق هذا الأمر، بحسب الكاتب، فإنه يحتاج إلى حالة من التحرر الوطني، والتركيز على التنمية ضد التخلف، والذي يشمل الجوع والفقر والمرض والأمية وعدم استغلال الثروات وغياب التخطيط طويل المدى، والقفز على الركود الفكري؛ فمهمة "التراث والتجديد"، كما يراها الكاتب، هي حل طلاسم الماضي مرة واحدة وإلى الأبد، وفك أسرار الموروث حتى لا تعود إلى الظهور أحياناً على السطح، وكذا القضاء على معوقات التحرر واستئصالها من جذورها.
ويؤكد الكاتب أنه ما لم تتغير جذور التخلف النفسية، كالخرافة والأسطورة والتأليه والانفعال وعبادة الأشخاص والسلبية والخنوع، فإن الواقع لن يتغير أبداً، فما أسهل أن يتبدل الشبح بالآلة والعفريت بالمحرك، فكلاهما يؤدي نفس الغرض، فاستعمال الساذج للآلة لن يقضي على إيمانه بالجن والأشباح إلا إذا أعيد بناؤه النفسي.
أزمة مناهج
يقول الكاتب إن هناك أزمة تواجه موضوع التراث والتجديد، ألا وهي أزمة الدراسات الإسلامية في الجامعات والمعاهد العليا، فإذا كانت أزمة التغيير أزمة الثورة في واقعنا، فإن أزمة الدراسات الإسلامية هي أزمة البحث العلمي.
ويُرْجِع الكاتب أزمة الدراسات الإسلامية إلى انفصال في شخصية الباحث بين المسلم والباحث؛ فهو مسلم من ناحية، بمعنى أنه مستسلم للواقع الذي يعيش فيه، وهو باحث من ناحية أخرى يدرس التراث بنظرة محايدة وكأنه يدرس ظواهر تاريخية لا شأن له بها، في حين أن "حنفي" يرى التراث "قضية شخصية للباحث لأنه ينتمي إليه فكراً وحضارةً ولغةً ومصدراً ومصيراً".
ولما كان كل خطأ في الحكم ينتج أساساً عن خطأ في المنهج، وكل كشف جديد يأتي أيضاً عن كشف في المنهج، فإن الحالة الحاضرة للدراسات الإسلامية والأحكام التي تصدر عنها تكشف أزمة في مناهج الدراسة؛ فهذه المناهج ليست مدروسة من قبل، وليست مطبقة عن وعي كامل، ولكنها شائعة بين المشتغلين بالدراسات الإسلامية، "ورثوها" إما عن طريق التقليد للدراسات الموجودة حالياً، سواء من المستشرقين أو الدارسين المسلمين، وإما عن طريق الاستسلام للعادة والأخذ بأضعف الإيمان أو رغبة في الحصول على ركن من أركان العلم، بحسب الكاتب.
ويدين الكاتب النزعة الخطابية التي تسود معظم الدراسات، التي يقوم بها باحثون ينتمون إلى نفس الحضارة، وهو الخطأ المضاد للنعرة العلمية السائدة في معظم دراسات المستشرقين؛ فالنزعة الخطابية، بحسب الكاتب، تعطي الأولوية للوحي على التاريخ، واصفاً هذا الاتجاه بـ"المراهقة الفكرية"، حيث سيادة العاطفة والانفعال.
طرق التجديد
يردّ الكاتب التجديد إلى مفهوم اللغة، فاكتشاف لغة جديدة هو اكتشاف للعلم، وطالما تأسس العلم بتأسيس لغته أولاً، بل إن تطور العلوم وانفراج أزمتها يحدث باكتشاف اللفظ أو المفهوم.
ويلفت الكاتب إلى أن العلوم الأساسية في تراثنا لا تزال تعبر عن نفسها بالألفاظ والمفردات والمصطلحات التقليدية التي نشأت بها هذه العلوم، والتي تمنع إعادة فهمها وتطويرها؛ إذ تسيطر على هذه اللغة القديمة ألفاظ دينية مثل: الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب، كما في علم أصول الفقه، فهذه اللغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقاً لمتطلبات العصر؛ نظراً لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها، ومهما أعطيناها معاني جديدة، بحسب الكاتب، فإنها لا تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الاصطلاحي الجديد.. ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن أداء مهمتيها، الاتصال والتعبير.
ويدفع الكاتب نحو "تجديد اللغة أولاً قبل تجديد العلوم"، ويضع سمات يراها مهمة وضرورية في تلك اللغة الجديدة التي نبحث عنها في سبيل التجديد عموماً، ومنها:
- أن تكون لغة عامة حتى تخاطب الأذهان كافة.
- أن تكون لغة مفتوحة تقبل التغيير والتبديل في مفاهيمها أو معانيها، أو حتى في وجودها.
- أن تكون لغة عقلية حتى يمكن التعامل بها في إيصال المعنى، فأي لغة قطعية لن تعبر عن شيء لأنها مغلقة على نفسها.
- أن تكون لغة لها ما يقابلها في الحس والمشاهدة والتجربة، حتى يمكن ضبط معانيها والرجوع إلى واقع واحد يكون محكماً للمعاني.
- أن تكون لغة إنسانية لا تعبر عن مقولة إنسانية كالنظر والظن واليقين، فهي ألفاظ تشير إلى جوانب من السلوك الإنساني لواقع في الحياة اليومية.
وختاماً، يرى حسن حنفي أن أهم سمة في سمات هذه اللغة الجديدة، التي يدعو إليها، أن تكون لغة عربية وليست مستعربة أو معربة عن طريق النقل الصوتي للغات والألفاظ الأجنبية.
ويضرب حسن حنفي مثالاً على "موضوعات التجديد"؛ فالعلوم الدينية التي قامت من أجل ضبط الوحي كتابةً، يقول إنها "علوم مؤقتة تنتهي بانتهاء دورها مثل علوم القرآن والحديث، فهي مرتبطة بالأصول ذاتها، وتحرص على بقائها في كليتها بعيداً عن التحريف واللحن"، لافتاً إلى أن علم الحديث، الذي نشأ من أجل ضبط الرواية "انتهى بانتهاء مهمته".