الحداثة الدينية:

المقاصد الإنسانية في الخطاب القرآني

مركز حوار الثقافات

02-02-2025

تباينت وتعددت جهود الباحثين والمفكرين العرب لجهة وضع النص الديني المؤسس في حيز معرفي، ومحاولة قراءته إبستمولوجيا. فتوسُّل المناهج الحديثة، الهرمنيوطيقية والأركيولوجية والفينومينولوجيا، يجعل الخطاب القرآني بعيداً عن ضغوط وإكراهات الحمولات الأيديولوجية الضيقة والمنغلقة، بينما يتسع للخبرة الإنسانية وينفتح على التأويلات الغنية وتعدد المعاني؛ إذ إن الاحتمالات المعرفية، التي تتخطى طوق المطلق المصنوع، أو حسم الأجوبة على طريقة "الإجماع"، وتعيين الثوابت باعتبارها خطوطاً حمراء لشل العقل والإرادة، تحفز العقل على أن تكون التجربة الإيمانية أوسع نطاقاً وأكثر تدفقاً ولا تقع في الجمود والعنف. 

الخطاب القرآني 

في كتابه "هل قرأنا القرآن أم على قلوب أقفالها؟"، يكاد يتفق الباحث والمفكر التونسي يوسف الصديق، مع المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، على أن النص القرآني عبارة عن "خطاب يحفز الإنسان على أن تكون عملية التلقي لديه إيجابية وليست سلبية"؛ وبالتالي، يصبح فاعلاً في مسافة تتقاطع مع الرسالة الدينية، لكشف الدلالات والمعاني في تأويل القرآن، كنص مفتوح وقابل للحياة والتطور مع حركة التاريخ. 

يقول أبو زيد في كتابه "مفهوم النص": "وليست الرسالة المتضمَّنة في عملية الاتصال/الوحي، سواء كانت رسالة لغوية أم كانت رسالة غير لغوية، رسالة خاصة بالمتلقي الأول، ولكنها رسالة مطلوب تبليغها للناس وإعلامهم بها. وإذا كانت الرسالة لغوية قولية، كما هو الأمر في حالة القرآن، فالمطلوب إبلاغ منطوق الرسالة اللفظي دون تحوير أو تبديل أو تحريف. إن النص يفصل في مواطن كثيرة بين فاعل القول -المتكلم والمُوحي- وبين المتلقي الأول".

وكون "النص" بلاغاً معناه أن المُخاطبين به هم الناس جميعاً، الناس الذين ينتمون إلى نفس النظام اللغوي للنص وينتمون إلى الإطار الثقافي الذي تُعد هذه اللغة مركزه. إن مفهوم "التنزيل"
 هنا لا بد أن يُفهم بوصفه تنزيلاً إلى الناس، عبر وسيطين: الأول المَلَك، والوسيط الثاني محمد البشر. إنها رسالة السماء إلى الأرض؛ لكنها ليست رسالة مفارقة لقوانين الواقع، بكل ما ينتظِم في هذا الواقع من أبنية وأهمها البناء الثقافي. إنّ المطلق يكشف عن نفسه للبشر، "يتنزل" إليهم، بكلامه عبر نظامهم الدلالي الثقافي واللغوي. 

المفكر العراقي طه جابر العلواني له إسهامات خاصة في تقديم وعي مختلف للقرآن، وقد انعطف باتجاه خطوة منهجية تقوم على التمييز بين قراءة الوحي وقراءة الكون، وهنا يقول: 

من الضروري قراءة الوحي النازل إلى النبيين، أما قراءة الكون المتمثل في علم الكون أو المعارف الطبيعة، فإن إهمال القراءة الثانية في الكون والطبيعة المسخرة، أي إهمال الوجود والكون، فإنه يؤدي إلى نفور من الدنيا، ويشل طاقات الإنسان، ويعطل فكره، وفق كتابه "الجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة الكون". 

وسعى جابر العلواني إلى اعتبار حركة النص تصاعدية، تعتمد على التفاعل مع التاريخ والواقع، بما يجعلها في حركة دائمة وينفي عنها السكونية والثبات؛ ومن ثم، الفهم على أساس الموروث، وفي حدود زمانية النص التقليدية، ومفاهيمه القديمة.

تحرير النص 

المفكر السوري محمد شحرور يُعد مرتكزاً مهماً ضمن الجهود الشاقة الفكرية، الساعية إلى تحرير النص من طبقات الجمود والعنف، التي تراكمت عليه بفعل الأيديولوجيا والسياسة من قوى تاريخانية ماضوية، أصولية وسلفية، وارتهنت إلى التمجيد بدعوى قداسة التراث، بينما كانت في الحقيقة تحتمي به لتأمين مصالح ضيقة وتأميم أي محاولات للتقدم على حساب حلحلة امتيازاتها. 

التحليل اللساني كان نقطة انطلاق شحرور، الذي قصد إلى تعقب تطور المعنى لغوياً، كما حدد في كتابه "الكتاب والقرآن" وكذا "القصص القرآني". وترتبط القراءة المعاصرة لدى شحرور بالنص المؤسِّس وليس أي شيء آخر؛ فهو نقطة البداية، وحوله وعلى أطرافه أو تخومه وفي عمقه، يمكن البحث والتقصي والاستعانة بكل الأدوات للوصول إلى المعنى.

أزمة الوعي 

وينطلق شحرور في تأويله القرآني من أزمة الوعي الديني، الذي ما يزال يخضع في تعاطيه وتفسيره للنص للمدونة التفسيرية القديمة، التي لا تناسب اللحظة الراهنة بشروطها وقيمها الجديدة. 

فيقول شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن": "مِن هنا يجب أن ننطلق في فهم أزمة الفقه الإسلامي الموروث والتفسير، الذي أصبح يشكل عبئاً علينا؛ إذ أصبح غير متناسب مع معلوماتنا وظروفنا في القرن العشرين، بحيث إن الأزمة تنطلق مِن خطأ في المنهج، لا من ضعف في اللغة أو قلّة في التقوى". 

فالمدونة التفسيرية الكلاسيكية كانت "تتناسب مع نمطهم المعرفي السائد"، الذي كان يقوم على "النظرة التجزيئية"، لجهة "حل التناقض" الظاهر بين دلالات وأحكام بعض آيات التنزيل الحكيم، الأمر الذي نجم عنه تثبيت الأحكام الفقهية الاجتهادية، في مقابل دلالات كتاب الله تعالى "فضلاً عن التلاعب بنصوصه، فما هو ناسخ عند مذهب هو نفسه منسوخ عند آخر"، كما يقول في كتابه "الدولة والمجتمع". 

ثم ينقل شحرور عن طه جابر العلواني، في كتابه "القصص القرآني"، قوله إن "قضايا الناسخ والمنسوخ التي نتداولها باعتبارها عِلماً من علوم القرآن، اشتملت على أمور سلبية كثيرة، حمّلت القرآن مجموعة من الأمور التي ما كان ينبغي للأمة أن تغفل عنها، خصوصاً ما يوحي بتعرض القرآن للتحريف". 

مقاربة أخرى مغايرة لتحليل وفهم القرآن، من خلال المفكر الباكستاني فضل الرحمن مالك، التي تقوم على العودة "للقرآن في انطلاقته الأولى مع محمد"، كما جاء في كتابه "الإسلام وضرورة التحديث" (ترجمه إبراهيم العريس)؛ وهي مقاربة توفيقية يحاول من خلالها تجسير المسافة بين الرؤى الإحيائية والرؤى الحداثية. 

ويقول فضل الرحمن عن الأصوليين، إنهم "يتحدثون عن الأصل دون بلورة أي فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون رد فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسياً وعقلياً".

هنا يكشف المفكر الباكستاني عن غياب المنهج عن العقل الإسلامي.

وحدة القرآن

وفي كتابه "المسائل الكبرى في القرآن"، سعى فضل الرحمن مالك إلى الاعتماد على تأويله لبعض القضايا الكبرى في الإسلام، منطلقاً من وحدة القرآن. وبما أن المفكر الباكستاني يكشف عن إعجابه بالتأويلية الفلسفية، باعتبارها أول من وضعت يدها على وحدة القرآن، فإنهم لم يكتشفوها من القرآن، إنما من نظم معرفية من خارج بيئة النص، وهي "ليست في تناحر مع القرآن بالضرورة إنما بالتأكيد غريبة عنه".

ووحدة القرآن، عند فضل الرحمن مالك، لا تعني ربط الآيات ببعضها أو محاولة ملء المعاني المتشظية في الآيات بأمور كلية، لكن تأسس القرآن على مفاهيم كبرى ومركزية، هي "التوحيد، والحساب، والوحي"، وهي مفاهيم وقيم تكوينية لها دور عقدي اجتماعي، ومن خلالها يمكن فهم واكتشاف مضامين الرسالة الاجتماعية والأخلاقية والتشريعية. 

يقول فضل الرحمن، في كتابه "الإسلام وضرورة التحديث": "نظريات الخالق الواحد القيوم، وضرورة الوصول إلى عدالة اجتماعية اقتصادية، والإيمان باليوم الآخر، إنما هي عناصر تقود إلى التجربة الدينية الأصيلة التي جاء بها محمد". 

ووفق المفكر المصري حسن حنفي، في كتابه "من النص إلى الواقع"، فإن العقل هو المصدر الأول للتشريع.. مؤكداً أن: "دلالة العقل على الأحكام الشرعية، والتجارب الإنسانية التي يعيشها المسلمون في هذا العصر بأزماته وتحدياته، تُحتم أن يكون العقل هو المصدر الأول من مصادر التشريع، من أجل تشجيع الأمة على الاجتهاد، وحتى لا يحجب النص بين العقل والواقع، فيضيع الواقع في سوء فهم النص لغة أو تنزيلاً أو نسخاً".

وختاماً، يتفق أبو زيد وحسن حنفي، في تأويل القرآن، على أن الوحي لا يتحقق إلا في ضوء التاريخ، وهو حركة من داخله وليس متعالياً عليه؛ إذ يرى حنفي أن "الوحي قصد من الله إلى الإنسان، يتوجه إليه بالخطاب، ويتحول إلى تجربة مثالية في أقوال النبي، وتجربة جماعية في إجماع الأمة، وتجربة فردية في اجتهاد الشخص، ثم يُفهم باللغة الإنسانية التي من خلالها يُفهم الكلام، ثم يتحقق كمقاصد إنسانية".

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة