وجيه كوثراني:

نقد التجربة السياسية الإسلامية في التراث

مركز حوار الثقافات

28-07-2025

وجيه كوثراني:

نقد التجربة السياسية الإسلامية في التراث

يرى المفكر اللبناني وجيه كوثراني (1941م)، أن النهضة العربية هي محاولة فاعلة لاستعادة الذات دون استنساخ وتقليد النموذج الغربي، ويجتهد في دراسة التراث الإسلامي، بشقيه "المقدس" و"التأويلي"، دراسة تاريخية عقلانية يفرق خلالها بين النصوص المقدسة التي يُمكن إعادة قراءتها، وبين تأويلاتها التي ادعت احتكارها لفهم النص الديني فكانت سبباً في التقليد والجمود.

كوثراني، الحاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون بفرنسا، وشغل منصب أستاذ التاريخ بالجامعة اللبنانية، يُفرق بين الدين المنزل، وبين أشكال التدين التي تخضع للفهم البشري والتطورات الاجتماعية؛ ويرى أن التاريخ الإسلامي تضمن فرضاً مستمراً لأنماط معينة من التدين تُكرس للجمود والتقليد، وهي أنماط تحاول التيارات الأصولية إعادة تدويرها وفرضها في العصر الحالي؛ الأمر الذي يواجهه ضمن مشروعه الفكري، الذي ضمّنه في عديد من مؤلفاته، مثل: "أفكار النهضة بين الأمس واليوم"، و"مشروع النهوض العربي"، و"هويات فائضة.. مُواطنة منقوصة"، و"التأريخ ومدارسه في الغرب وعهد العرب: مدخل إلى علم التاريخ"، وغيرها؛ إضافة إلى عديد من المقالات البحثية والأكاديمية.

استعادة الذات

يرى "كوثراني" أن النهضة العربية منذ بداياتها تعرضت لكثير من المعوقات، معظمها داخلي وبعضها خارجي، مثل الاستعمار وتأثيره آنذاك، والتبعية الفكرية له، التي فرضتها هيمنته الحضارية بعد ذلك؛ كما أن المعوقات الداخلية للنهضة العربية تسببت في صراع فكري، ما زال مستمراً بين الثنائيات التي تدور حول التمسك بالتراث والهوية، أو الانفتاح على الحداثة الغربية.

ويستخدم كوثراني منهجاً تاريخياً عقلانياً في النظر إلى التجربة التاريخية للعالم العربي، ويذهب إلى أن مشروع النهضة العربية مر بثلاث مراحل زمنية:

- المرحلة الأولى: إيجاد ليبرالية عربية ومحاولة التوفيق بينها وبين الليبرالية الغربية.

- المرحلة الثانية: انتشار الفكر القومي عقب نهاية المرحلة الاستعمارية في العالم العربي.

- المرحلة الثالثة: إعادة النظر في الهوية العربية التي تعاني من تعدد وانتشار المذاهب الإسلامية والفكرية، لمحاولة إيجاد هوية عربية موحدة.

وحسب كوثراني، فإن المراحل الثلاث ظهرت فيها تيارات فكرية متعارضة ومتناقضة في ما بينها، إضافة إلى وجود محاولات متعددة للتوفيق بين التراث والحداثة العصرية، أو تبني التراث على حساب الحداثة، أو تبني الحداثة الغربية على حساب التراث؛ وهي تيارات فكرية ما زالت قائمة ومتصارعة، حسب قوله. 

نقد التراث

يدعو كوثراني إلى نقد مشروعات النهضة والحداثة العربية، وإعادة النظر في الخطاب الفكري للنهضة، وفقاً للظروف المتزامنة مع هذا الخطاب في مراحله المختلفة، ويحُث على ممارسة نقد معرفي لمشروعات الحداثة والنهضة العربية، لاكتشاف التوظيف الأيديولوجي لها، لا سيما الأيديولوجيا التقليدية التي أدت إلى تقديس الخطاب التراثي، والخطابات الأخرى التي انشغلت بمسألة النهضة، التي يرى أهمية إعادة النظر في تلك الخطابات النهضوية العربية وفق تداعياتها التاريخية والتحولات الاجتماعية، حسب قوله.

ويشدد كوثراني على رفض "التقديس المطلق للتراث"، كما يرفض تجاهله بالكامل، ويدعو إلى قراءة التراث قراءة نقدية تاريخية، يمارس خلالها قراءة النصوص والممارسات التراثية في السياقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويدعو إلى استخدام العقلانية النقدية في قراءة النصوص التراثية، لا سيما النصوص الدينية، ويُميز بين النصوص الدينية المقدسة أو ما وصفها بـ"النصوص التأسيسية" التي يقصد بها الوحي القرآني، وبين التأويلات البشرية التي نشأت على مدار التاريخ الإسلامي؛ مُستنداً في استخدام منهجه العقلي إلى قراءة النصوص المقدسة، ونقد النصوص التأويلية، إلى الدين الإسلامي نفسه، الذي طالب باستخدام العقل.

يقول كوثراني إن التفكير العقلي في النصوص الدينية بنوعيها "المقدس والتأويلي" يجعل من العقل أداة لفهم النص الديني وأبعاده، بما يتناسب مع التطورات التاريخية والمجتمعية والعصرية، وبما يمثل استجابة عصرية للاحتياجات الطارئة للمجتمعات العربية.

الدين والتدين

يُميز كوثراني بين "الدين" و"التدين"؛ فالدين هو منظومة القيم الكبرى التي تشكل جوهر الرسالة الدينية، مثل "الإيمان والعدل والرحمة والمساواة"؛ بينما التدين هو طريقة لتجسيد الدين في الواقع الاجتماعي والتاريخي، ما يجعله يُميز بين الدين كقيمة روحية والتدين كممارسة اجتماعية. وبما أنه يُقرر أن المجتمعات تتغير كما تتطور مراحل التاريخ، فإن أنماط التدين تتغير وفقاً لتغير المجتمعات والتاريخ، وفي دراسته للتاريخ ونقده للتراث ينتقد أنماط التدين السائدة آنذاك، ومحاولة فرضها وتوظيفها لأسباب سياسية كما حدث في بعض المراحل التاريخية الإسلامية.

ومن ثَم، فإن فرض أنماط التدين واستخدامها سياسياً سبب رئيس عند كوثراني لصعود التيارات الأصولية وجماعاتها الحركية، وهو الأمر الذي يمكن فهمه عبر الرجوع إلى سياقات التاريخ الإسلامي؛ إذ يرى أن توظيف الدين كان فعلاً مشتركاً من السلطة الحاكمة آنذاك وبين الفقهاء الذين كرسوا هذا التوظيف، وهو ما يُعاد استخدامه لدى التيارات الأصولية التي انتشرت في العالم الإسلامي، وما سببه انتشارها من إعادة إنتاج أنماط دينية تتسم بالانغلاق والجمود وتقديس التراث دون محاولة نقده، ورفض الآخر المختلف، سواء كان من داخل المجتمعات العربية أو من خارجها، ما يصبح عائقاً أمام أي محاولة تجديد أو إصلاح داخل المجتمعات العربية، حسب قوله.

يقول كوثراني، إن التيارات الأصولية تتسم بنزعة انغلاقية تتسبب في تهميش العقل النقدي، وتعوق دراسة التاريخ العربي دراسة نقدية تحليلية، بسبب النزعة التقديسية للتراث التي تؤدي إلى تقديس "الجانب البشري التأويلي من التراث".

منهجية عربية

يدعو "كوثراني" إلى الاستفادة من العلوم الغربية الحديثة وأدواتها المعرفية دون استنساخها استنساخاً حرفياً، بل يدعو إلى الاجتهاد في وضع نظريات علمية تنطلق من الواقع العربي وتعبر عنه، ما يؤسس لمناهج عربية مستقلة في دراسة الاجتماع الديني والسياسي العربي، دون استنساخ النظريات الغربية التي رفض تقليدها دون نقد أو تمحيص، الأمر الذي جعله يدعو إلى إدماج التحليل النقدي التاريخي والأدوات الاجتماعية الحديثة بما يتناسب مع الخصوصية العربية، لا سيما أن كثيراً من المفاهيم والنظريات الغربية نشأ في ظروف تختلف عن السياق العربي.

يقول كوثراني إنه يجب تفكيك المفاهيم الغربية وإعادة تأسيسها بشكل نقدي، يتناسب مع العالم العربي وتاريخه ومجتمعه وتطوراته وخصوصياته، ما ينتج مناهج عربية وأدوات معرفية قادرة على التفاعل مع الواقع العربي وتحقيق نهضته.

وختاماً، يقدم كوثراني قراءة نقدية تاريخية لـ"التجربة السياسية الإسلامية في التراث"، وامتدادها في التيارات الأصولية، يراعي فيها السياقات التاريخية والاجتماعية، ومحاولة فرض أنماط من التدين، وذلك ضمن محاولته قراءة التراث قراءة تاريخية نقدية بعيدة عن التقديس والرفض المطلق، ويرى أن فهم أنماط التدين يجعل من الممكن إيجاد تأويل عقلي للنصوص الدينية، يساعد في تغيير أنماط التدين المغلقة التي تفرضها التيارات الأصولية، لا سيما وأن الفكر الديني يحتاج إلى فهم عميق لتحولات المجتمع الإسلامي حتى يمكن تطويره.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة