يستهل المفكر اللبناني علي حرب كتابه "نقد الحقيقة"، بتأكيد أن غايته "فضح ألاعيب الحقيقة التي يمارسها خطاب الحقيقة"، وذلك عبر نقد الحقيقة التي يعتبر أنها ليست شيئاً ثابتاً، أو مطلقاً، أو متعالياً؛ بل هي نتاج خطاب يحتاج دائماً إلى تفكيك ونقد مستمر، يجعل من الممكن كشف الأوجه الأخرى لها. والنقد ليس نفياً للحقيقة بقدر ما هو "تعرية آليات وكشف أقنعة وتفكيك متعاليات"؛ لا سيما أن الحقيقة، كما يراها حرب، لها قدرة على "التعدد والتنوع والاختلاف"، وليست أحادية كما يُظن بها؛ حيث إنها ترتبط دائماً بحق الآخر في الاختلاف والفهم المُغاير، أو كما يقول نصاً: "ليست الحقيقة سوى الاعتراف بحق الآخر".
والحقيقة، إذاً، عند حرب، هي "منهج ومعيار وآلة ووسيلة ومنظور وأفق واختلاف وتعدد"، ونقد الحقيقة يُزعزع الثقة بالمفهوم اللاهوتي المطلق لها لصالح الحقيقة المتعددة؛ إذ لا توجد حقيقة بـ"ألف لام التعريف"، حسب قوله.
النص والقراءة
يوضح حرب العلاقة بين القراءة والنص؛ فالقراءة ليست "استنساخاً للنص، بل هي إعادة إنتاج للنص وتشبيه له"، فالقراءة هي نشاط فكري ولغوي يسبب الاختلاف والتباين المستمر، لا سيما أن القارئ يقرأ النص عبر تجربته وذاته، ما يجعل النص يحتمل أكثر من قراءة، ولا يعني أن تعدد قراءات النص يؤدي إلى قراءة خاطئة، خاصة أنه "لا قراءة منزهة مجردة؛ إذ كل قراءة في نص ما هي إلا إزاحة لمعانيه".
يبرهن حرب على تعدد القراءات واختلافها بتعدد قراءات النصوص المقدسة أو الفلسفية وتعدد فهمها؛ مثل النصوص القرآنية التي لها تفسيرات متعددة، أو فلسفة أرسطو التي لها شروحات كثيرة بعضها يُغاير بعضاً؛ فالقارئ حينما يقرأ نصاً فإنه "يستنطقه ويحاوره ويستكشفه بقدر ما يستكشف ذاته"، ويصبح النص "جديراً بالقراءة ويحمل فضاءً دلالياً وإمكانية تأويلية"، بينما ينتقد المؤلف القراءة الحرفية، أو ما أطلق عليها "قراءة أهل الظاهر المتمسكين بحرفية النص"، الذين لا يرون أن النص لا يحتمل إلا معنى واحداً فقط، تحكمه معاني الكلمات التي هي في الأصل معانٍ متغيرة، حسب قوله.
الاختلاف والتنوع
يوضح الكاتب أن الاختلاف هو الأصل وليس الاتفاق، فالاختلاف سُنة طبيعية كونية، وكل ما في الوجود مبني على "الاختلاف والتنوع"، ولا إشكالية في الاختلاف بذاته، وما تظهر من إشكالية خاصة بالاختلاف هي في الأصل إشكالية في كيفية فهم الاختلاف والتعامل معه وقبوله، وليس في وجود الاختلاف بحد ذاته.
والإسلام وفقاً لـ"حرب"، يُقر الاختلاف ويؤكد التنوع ويشجع الاختلاف والتنوع في الرأي، ويضرب مثلاً باختلاف الصحابة في ما بينهم بعد وفاة النبي على مسألة الخلافة، وهو الخلاف الذي استمر بعد ذلك وتطور إلى خلافات مذهبية وفقهية وفكرية، والله سبحانه وتعالى يُفسر الخلاف في القرآن بأنه يجري وفقاً لمشيئته وقضائه: "وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ..." [المائدة: 48]. كما حدث اختلاف في الفهم البشري للنص القرآني فظهر الاختلاف في التفاسير وقراءة النص القرآني، وآفة الخلاف في التاريخ الإسلامي أنه أدى إلى "المجادلة والمنازعة التي تحمل على التعصب وتوارث العداوة والبغضاء"، فازداد المسلمون فرقة، بينما نصُّ القرآن والسُّنَّة يشجع على الاختلاف والتعدد، ما يؤدي إلى الاعتراف بالآخر واحترام رأيه والتعايُش السلمي وقبول التعدد والتنوع الفكري والثقافي، وفقاً لقوله.
المُطلق والنسبي
يرصد المؤلف صراعاً قائماً بين المطلق والنسبي وبين اللاهوت والناسوت والمقدس والمدنس، وهي ثنائية حاضرة في الذات الإنسانية منذ وجودها، وهي تمثل الصراع بين الإنساني النسبي والإلهي المقدس، ويمثلان قوتين متضادتين تؤثران في الوجود الإنساني؛ فاللاهوت يُمثل الجانب الروحي المتعالي المثالي المطلق، بينما في المقابل يمثل الناسوت الجانب المادي الواقعي المتغير، وهو صراع له أوجه مختلفة في مجالات متعددة مثل الدين والفلسفة والفكر والأدب والثقافة، بينما تحاول الذات الإنسانية والفكر الإنساني التوفيق بين الجانبين المتناقضين، لا سيما أنه رغم تناقضهما فإنهما ثنائية غير منفصلة متداخلة دائماً.
التوفيق والتوازن
والإنسان يجتهد في التوفيق بين اللاهوت والناسوت بأشكال مختلفة، مثل محاولة إيجاد توازن بين الروح والمادة، أو بين الإيمان والعقل، وفقاً لـ"حرب" الذي يرى أنه قد يحدث نزوع إلى جانب دون الآخر، مثل النزعة المادية التي تحاول إنكار الجانب اللاهوتي، أو النزعة الروحية التي تحاول إنكار الجانب الإنساني. والتاريخ الإسلامي يرصد نماذج لهذه الصراعات بين الروحي والإنساني.
ويرى أن معظمها، رغم أنه يظهر كأنه ذو طابع ديني، فإنه حُسم لصالح ما هو إنساني، مثل نظام الخلافة في الإسلام بعد النبي الذي حقق حاجة إنسانية، وتطورت أشكاله ليصبح حكماً لا دينياً وفقاً للكاتب، كما أن المجالات الدينية كانت تلبية لحاجات إنسانية، مثل الاستنباطات الفقهية التي كانت فعلاً إنسانياً، التي وصفها بـ"العلمنة غير المعترف بها" التي كانت تمارسها المجتمعات الإنسانية، من منطلق ممارسة ناسوتيتها "رغم إنكارها لذلك"، حسب قوله.
ويحاول حرب النظر إلى مفهوم الحقيقة لدى المذاهب الدينية والفقهية الإسلامية المختلفة، ويرى أن المذاهب الدينية مارست الاجتهاد، وأنتجت تفسيرات وتأويلات واجتهادات دينية تختلف عن غيرها من المذاهب الأخرى؛ وكما أنها تختلف عن القراءات الأخرى، فإنها تختلف عن حقيقة النص الديني، بسبب الأيديولوجيا التي تتبعها والتأثيرات الاجتماعية والسياسية المختلفة، ما جعل هذه الحقيقة التراثية "أقل حقيقة مما يدعي قول القائل"، وفقاً لقوله.
التقليد والتجديد
يذهب الكاتب إلى أن الفكر الإسلامي المعاصر يواجه صراعاً بين التيار التقليدي الذي يدعو إلى التزام التراث وإعادة إحيائه والحفاظ عليه، وهو تيار منغلق؛ وبين تيار آخر منفتح يدعو إلى التجديد، والانفتاح على العلوم العصرية والمناهج الحديثة والأفكار الجديدة. وبينما يرفض التيار المنغلق الاختلاف والتعدد، فإن التيار المنفتح، في المقابل، يرحب بالاختلاف ويتقبل الفروقات ولا يجد غضاضة في التعامل مع هويات مختلفة متغايرة في ما بينها. ورغم أن هذا الصراع ما زال قائماً في الفكر المعاصر، فإن له جذوراً في التراث الإسلامي، رغم أن التراث نفسه، الذي يستخدمه التيار المنغلق على أنه أداة للانغلاق، تضمن عناصر تدعم الانفتاح والتجديد، الأمر الذي يجب تجاوزه عبر ممارسة النقد الذاتي والانفتاح على الآخر، ما يؤدي إلى تطوير الفكر الإسلامي.
أيضاً، يتناول حرب ما وصفه بـ"الثالوث الفلسفي"، المتمثل في "الوجود والحقيقة والذات"، ويرى أنها مفاهيم مرتبطة في ما بينها، وهي مفاهيم غير ثابتة وليست مطلقة، تتغير وترتبط بالسياق التاريخي والثقافي. ويضرب مثلاً بالفلسفة الغربية التي اهتمت بمفهوم الوجود على حساب مفهومي الحقيقة والذات، فأهملت بعض الجوانب الإنسانية؛ لذا فإنه من الواجب "إعادة التوازن بين المفاهيم الثلاثة"، ما يؤدي إلى الاهتمام بالذات الإنسانية ويعيد دورها في بناء المعرفة.
وختاماً، يشدد الكاتب على أهمية العلاقة بين "العين" و"الغير"، أو العلاقة بين "الذات" و"الآخر"، التي يجب أن تُبنى على قبول الآخر واحترامه والانفتاح واحترام نظرته للحقيقة، لا سيما أن الحقيقة غير ثابتة ومتغيرة وتتعدد بتعدد القراءات، ورغم ما يشوب الحقيقة من أحادية وإطلاق، فإن النقد العقلي لها يثبت الطابع الإنساني التعددي لها، وأهم ما يميزها تأكيد الاختلاف والتنوع بها، وهو ما أكده عبر دراسته النقدية للحقيقة في العصر الحالي وفي مراحل تاريخية مختلفة.