مفهوم النص:

صراع التقليد والتحديث في الفكر الإسلامي

مركز حوار الثقافات

07-04-2025

يُعتبر كتاب "مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن" من أبرز أعمال الباحث والمفكر المصري نصر حامد أبو زيد، وهو أحد الكتب التي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية والدينية في مصر، بل وفي العالم العربي والإسلامي. تناول أبو زيد في هذا الكتاب مفهوم النص القرآني من منظور نقدي وتأويلي حديث، ساعياً إلى إعادة قراءة النصوص الدينية بعيون معاصرة ومنهجية علمية. نُشر الكتاب لأول مرة في عام 1990، وترك أثراً عميقاً في النقاش حول تجديد الفكر الديني في العالم العربي، ما أدى لاحقاً إلى طرح أبو زيد أمام المحاكم المصرية في قضية عُرفت بقضية "الحسبة"، التي انتهت بحكم التفريق بينه وبين زوجته.

حضارة النص

ينطلق أبو زيد من نقطة مركزية، مؤداها أن: "القرآن نص لغوي يُمكن أن نصفه بأنه يُمثل في تاريخ الثقافة العربية نصاً محورياً. وليس من قبيل التبسيط أن نصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة النص"؛ شارحاً معنى مصطلح "حضارة النص"، أنها: "حضارة أنبتت أُسسها وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يُمكن تجاهل مركز "النص" فيه". 

ومن هذه النقطة المركزية لدى أبو زيد، يبدأ كتابه بتقديم نقد جذري للفهم التقليدي للنص القرآني في الدراسات الإسلامية؛ حيث يرى أبو زيد أن هناك حاجة ملحة لإعادة قراءة النص القرآني وتفسيره، وفقاً للمتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية الحديثة. وهنا، يستدرك أبو زيد بأن ذلك لا يعني أن: "النص بمفرده هو الذي أنشأ الحضارة، فإن النص أياً كان لا ينشئ حضارة ولا يُقيم علوماً وثقافة. إن الذي أنشأ الحضارة، وأقام الثقافة جدلُ الإنسان مع الواقع من جهة، وحواره مع النص من جهة أُخرى".

من هذا المنطلق، يعتمد أبو زيد على فكرة أن النص القرآني في حضارتنا له دور ثقافي لا يُمكن تجاهله، في تشكيل ملامح هذه الحضارة وفي تحديد طبيعة علومها. وبالتالي، فإنه –أي النص- ليس كياناً مغلقاً أو جامداً، بل هو نص مفتوح على التأويل والتفسير بحسب الظروف التاريخية والثقافية التي يعيشها القارئ.

النص والتأويل

إذا كانت الحضارة تتركَّز حول "نص" بعينه يُمثل أحد محاورها الأساسية، فلا شك أن "التأويل" –وهو الوجه الآخر للنص– يُمثِّل آليةً هامة من آليات الثقافة والحضارة في إنتاج المعرفة. بناءً على ذلك، يرى أبو زيد أن النص القرآني يجب أن يُفهم في سياقه التاريخي والثقافي. فهو يرفض الفهم الحرفي أو الجامد للنص، مؤكداً أن النصوص القرآنية ليست مجرد كلمات نزلت على النبي محمد عليه الصلاة والسلام لتنظيم المجتمع الإسلامي في عصره، بل هي نصوص تحمل في طياتها دلالات ومعاني متعددة تُفتح على التأويل.

ويُعد موضوع "مفهوم النص والتأويل" محوراً رئيساً في فكر نصر حامد أبو زيد؛ حيث يرى أن النصوص الدينية، بما فيها القرآن، ليست حقائق مطلقة وغير قابلة للتفسير أو التأويل، بل هي نصوص مفتوحة تُقرأ في ضوء السياق التاريخي والثقافي الذي يحيط بها. وبحسب رؤيته، فإن النصوص الدينية (القرآن والسنة)، تعاملت عبر القرون بمفهوم من الثبات والقداسة، التي تَحول دون إعادة النظر في تأويلها. وهو يُفَرِّق بين النص الديني، أي "كلام الله المقدس"، وبين تأويله وفهمه الذي يتأثر بالظروف الاجتماعية والثقافية التي يعيشها المفسرون. من هنا، يسعى أبو زيد إلى تحرير عملية التأويل من القيود التي فرضها علماء الدين على مدار التاريخ، مستشهداً بأن التعدد في التفسيرات والتأويلات كان دائماً سمة من سمات الفكر الإسلامي في العصور الأولى.

ويتبنى أبو زيد في منهجه التأويلي مفهوماً يتماشى مع "الهرمينوطيقا" (علم التأويل) الحديث؛ حيث يُظهر أن كل قراءة للنص تتأثر بالظروف التي تحيط بالقارئ، وأنه لا توجد قراءة موضوعية مطلقة للنص. فـ"النص"، وفقاً لأبو زيد، هو كائن حي يتفاعل مع محيطه الاجتماعي والثقافي ويتأثر بظروف تفسيره. وبالتالي، ما فهمه المسلمون في القرون الأولى عن نصوص معينة قد لا يكون بالضرورة ما يجب فهمه في العصر الحديث، حيث اختلفت الظروف والمتغيرات التي تحكم المجتمعات الإسلامية.

يرى أبو زيد أن هذا العلم (علم التأويل) يمكن أن يقدم أدوات جديدة لفهم النص القرآني، بشكل يتناسب مع العصر الحديث؛ مُشدداً على "ضرورة التمييز بين النصوص الثابتة والمطلقة (مثل العبادات)، وبين النصوص التي ترتبط بظروف تاريخية خاصة (مثل القوانين الاجتماعية والسياسية)". ويشير أبو زيد إلى أن التراث الإسلامي، نفسه، مليء بتفسيرات وتأويلات متباينة للنص القرآني؛ ما يدل على أن التعددية في فهم النص كانت موجودة منذ القدم؛ مؤكداً على أهمية إعادة النظر في هذا التراث، ومحاولة الاستفادة منه بشكل نقدي، بدلاً من اعتباره مصدراً ثابتاً للحقيقة الدينية.

اللغة والنص

وفي مسألة علاقة اللغة بالنص، وتأثيرها على فهمه وتأويله، يشير أبو زيد إلى أن النصوص الدينية ليست مجرد نصوص لغوية، يمكن فهمها بشكل حرفي وثابت، بل هي نصوص لغوية ثقافية تتفاعل مع الزمن، وتتأثر بالتغيرات اللغوية والاجتماعية.

فمن جانب اللغة كأداة للتواصل وتكوين المعنى، يؤكد أبو زيد أن اللغة هي الأداة الرئيسية التي تُستخدم لنقل المعنى، لكنها ليست محايدة. فاللغة ليست مجرد أداة لنقل الأفكار، بل هي مكون رئيس في بناء تلك الأفكار والمعاني. ومن هذا المنطلق يرى أبو زيد أن أي تفسير للنص القرآني يجب أن يأخذ في الاعتبار التحولات اللغوية التي حدثت عبر العصور. اللغة العربية، التي كُتب بها القرآن تطورت وتغيرت، ويجب فهم النصوص على ضوء التحولات التي طرأت على اللغة والمعاني عبر التاريخ.

أما على جانب دور اللغة في بناء النص القرآني، فيرى أبو زيد  أن فهم النص القرآني يتطلب تفكيك اللغة التي كُتب بها، وليس التعامل معها بوصفها لغة ثابتة لا تتغير. يستشهد أبو زيد بأن العديد من المفاهيم القرآنية التي كانت واضحة ومفهومة في عصر النبي، قد تحمل اليوم معاني مختلفة بسبب تطور اللغة وتغير دلالات الكلمات. على سبيل المثال، مفاهيم مثل "الربا" و"الجهاد" و"الشورى" تحتاج إلى إعادة تأويل في ضوء تطور اللغة والمجتمعات.

ويؤكد أن فهم النص يجب أن يعتمد على التحليل اللغوي الدقيق، الذي يأخذ في الاعتبار أن اللغة ليست معزولة عن السياق الاجتماعي والثقافي، بل هي جزء من نسيج هذا السياق. وبالتالي، فإن عملية تفسير النص يجب أن تشمل فهماً عميقاً للغة العربية في عصر نزول القرآن، وكذلك فهماً لما طرأ على هذه اللغة من تطورات وتحولات حتى يومنا هذا.

ولا يتوقف أبو زيد عند حدود دور اللغة في بناء وفهم النص القرآني؛ لكنه يطرح أيضاً فكرة أن اللغة يمكن أن تكون أداة للسلطة. فالسلطات الدينية والسياسية عبر التاريخ استخدمت اللغة القرآنية كأداة لتبرير مصالحها، وتوجيه المجتمع بما يتناسب مع أهدافها. كما يُشير إلى أن الفقهاء حاولوا إضفاء طابع الثبات والقداسة على تفسيرهم للنصوص القرآنية، وبذلك تم تقييد النص في قوالب لغوية وثقافية محددة؛ مؤكداً على أن النص القرآني يجب أن يُفهم في ضوء تطورات اللغة والواقع الاجتماعي. فاللغة، وفقاً لأبو زيد، يمكن أن تكون وسيلة للهيمنة إذا لم يتم التعامل معها نقدياً، وهذا ما يسعى إلى تفاديه من خلال إعادة التأويل المستمر.

انتقادات حادة

رغم أن كتاب "مفهوم النص" قوبل بتقدير في بعض الأوساط الأكاديمية، فإنه أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الدينية التقليدية، وواجه نقداً حاداً من قِبل علماء الدين والمفكرين الإسلاميين المحافظين. وكان أحد أهم الانتقادات الموجهة إلى أبو زيد هو اتهامه بالتشكيك في ثوابت الدين الإسلامي، خاصة فيما يتعلق بفكرة أن النصوص الدينية مفتوحة على التأويل بحسب السياق التاريخي والاجتماعي؛ إذ اعتبر البعض أن هذا الطرح يُفقد النص القرآني قدسيته، ويجعله عرضة للتلاعب بحسب أهواء المفسرين.

ونتيجة الأفكار الجريئة التي طرحها نصر حامد أبو زيد في "مفهوم النص"، وجد نفسه في مواجهة مع التيارات الإسلامية المحافظة في مصر. وصلت الأمور إلى ذروتها عندما رفع أحد المحامين قضية "الحِسبة" ضده، متهماً إياه بالردة عن الإسلام بسبب أفكاره التي وردت في كتابه. في عام 1995 أصدرت محكمة الأحوال الشخصية حكماً بتفريق أبو زيد عن زوجته. وبعد الحكم اضطر أبو زيد إلى مغادرة مصر مع زوجته، حيث استقر في هولندا. 

وختاماً، يُعد كتاب "مفهوم النص.. دراسة في علوم القرآن" محاولة جريئة لإعادة قراءة النص القرآني من منظور حداثي ونقدي. طرح نصر حامد أبو زيد من خلاله العديد من الأفكار التي تُمثل تحدياً للفهم التقليدي للنصوص الدينية، وهو ما أدى إلى مواجهة عنيفة من قِبل التيارات الدينية المحافظة. ورغم الانتقادات الكثيرة التي وُجهت إلى الكتاب، فإنه يظل واحداً من الأعمال الفكرية المهمة التي تسلط الضوء على الصراع بين التقليد والتحديث في الفكر الإسلامي.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة