يُعتبر كتاب "مفهوم العقل: مقالة في المفارقات"، للباحث والأكاديمي المغربي عبد الله العروي، من أبرز الأعمال الفكرية التي تتناول مفهوم العقل وتحليله في سياق الفلسفة والثقافة العربية الإسلامية. صدر الكتاب في طبعته الأولى عام 1996، عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، ويأتي ضمن سلسلة من الكتب التي طرح فيها العروي رؤيته النقدية حول المفاهيم الأساسية مثل التاريخ، الحرية، الأيديولوجيا، والعقل.
الكتاب يناقش "مفهوم العقل" من منظور نقدي تحليلي، مستعيناً بالتجربة الفكرية الفلسفية الغربية، دون أن يغفل عن السياق الثقافي العربي الإسلامي الذي ينطلق منه. يطرح العروي مجموعة من المفارقات التي تتعلق بالعقل في سياقات مختلفة، ويعالج عدة قضايا مرتبطة بفهم العقل ومحدداته، سواء من زاوية المطلق أو الغيب أو الظاهر. كما يتناول كيفية فهم العقل في إطار الفلسفة الكلاسيكية والمعاصرة، وما يطرحه من تساؤلات حول الطبيعة الإنسانية والحدود بين العقل والإيمان.
عقل المطلق
يناقش العروي مفهوم "عقل المطلق"، الذي يتعامل مع العقل من زاوية النظر إلى الحقائق الكلية والجوهرية؛ ويقوم بتحليل فكرة العقل باعتباره أداة لفهم المطلقات، ويطرح تساؤلات حول مدى قدرة العقل على استيعاب ما هو مطلق، مثل مفاهيم الله، الوجود، الحقيقة المطلقة، والكون.
العروي يتناول قضية الفلسفة المثالية في التاريخ الفلسفي، خصوصاً مع الفلاسفة الكلاسيكيين أمثال أفلاطون وأرسطو، حيث يمثل المطلق لديهم حقيقة مثالية لا يدركها إلا العقل المتحرر من القيود الحسية. وهنا، يُظهر العروي أن المطلق في هذه الفلسفات يتم التعامل معه باعتباره كياناً لا يتغير ولا يتأثر بالزمن، وأنه موجود فوق الإدراك العادي للحواس، ما يجعل العقل هو الأداة الوحيدة الممكنة للوصول إليه.
غير أن العروي لا يقف عند هذا الحد؛ بل ينتقل إلى نقد تلك النظرة المثالية للمطلق، معتبراً أن المطلق في ذاته مفهوم يحمل داخله تناقضات ومفارقات. العقل الذي يسعى إلى فهم المطلق يجد نفسه أمام حدود ذاتية وموضوعية؛ إذ لا يمكنه في النهاية أن يحيط بشكل كامل بمفهوم لا نهائي كالمطلق. يشير العروي إلى أن هذه المفارقة كانت دائماً حاضرة في الفكر الفلسفي الغربي والشرقي على حد سواء، ويستشهد في هذا السياق بالتراث الفلسفي العربي الإسلامي، وبالأخص مع ابن رشد والفارابي، حيث كان هناك محاولات للتوفيق بين العقل والمطلق في إطار الفلسفة الإسلامية.
ويستنتج العروي أن التعامل مع "عقل المطلق" في الفكر العربي الإسلامي يختلف عن السياق الفلسفي الغربي، بسبب التأثير القوي للدين والعقيدة. في السياق الإسلامي، المطلق يرتبط بشكل مباشر بالله والإيمان، وهو ما يجعل العقل محدوداً في محاولته لفهم الله؛ إذ يجب عليه أن يتخذ الإيمان كجزء من المعادلة.
عقل الغيب
ثم يتحول العروي في النقاش إلى مفهوم آخر أكثر تعقيداً، وهو "عقل الغيب"؛ حيث يناقش كيف يتعامل العقل مع الغيبيات التي تتجاوز حدود المنطق العقلي والمعرفة التجريبية. الغيب هنا بحسب العروي، يشير إلى ما لا يُرى ولا يمكن إدراكه بالحواس أو بالعقل المباشر، مثل مفاهيم الآخرة، الجنة، الجحيم، والملائكة، والتي تشكل جزءاً رئيساً من العقيدة الدينية.
يُظهر العروي أن "عقل الغيب" يحمل تحديات كبيرة للعقل الفلسفي؛ إذ إنه يتطلب التسليم بما هو غير ملموس وغير خاضع للتجربة الإنسانية المباشرة. ويستعرض كيف أن الفلاسفة والمفكرين، في العالم الإسلامي، حاولوا على مر العصور التوفيق بين العقل والغيب، بدءاً من الكندي والفارابي وابن سينا إلى الغزالي وابن تيمية.
في هذا السياق، يُطرح السؤال الرئيس: هل يمكن للعقل أن يفهم الغيب، أم إنه بحاجة إلى الإيمان المطلق ليقبل به (؟).
هنا، يُناقش العروي العلاقة بين العقل والإيمان في السياق الإسلامي؛ ويشير إلى أن الفكر الإسلامي التقليدي كان دائماً في حالة جدل حول هذه العلاقة. الفلاسفة مثل ابن سينا وابن رشد حاولوا إيجاد منطقة وسطى بين العقل والإيمان، في حين أن الغزالي قدّم نقداً للعقلانية المفرطة التي تحاول استيعاب كل شيء، بما في ذلك الغيب؛ إذ إن الغزالي جادل بأن الغيب هو مجال لا يمكن للعقل أن يدركه بشكل كامل، وأن الإيمان هو الوسيلة الوحيدة للتعامل مع هذه المفاهيم.
ثم ينتقل العروي من مناقشة الغيب في إطار الفلسفة الإسلامية، إلى تسليط الضوء على بعض المفارقات التي تنشأ عندما يحاول العقل أن يخوض في الغيب؛ حيث يعتبر أن الغيب يمثل تحدياً دائماً للعقل، لأنه يفرض عليه أن يتجاوز حدوده الطبيعية. لكنه، في الوقت نفسه، يرى أن الغيب يمكن أن يكون مصدراً للإبداع الفلسفي والديني؛ إذ إنه يدفع الإنسان إلى التساؤل والتأمل في ما يتجاوز نطاق التجربة المباشرة.
عقل العقل
بعد ذلك، ينقلنا عبد الله العروي إلى مستوى آخر من تحليل العقل، حيث يتناول موضوعاً أكثر تعقيداً وهو "عقل العقل"، أي العقل الذي يفكر في ذاته ويقوم بفحص أدواته وآلياته. يشير العروي إلى أن التفكير في العقل، بصفته أداة للمعرفة والوعي، يفتح باباً لفهم أعمق للعقلانية ذاتها، ويطرح أسئلة حول قدرة العقل على إدراك حدوده ومحدداته.
يعرض العروي لمفهوم "عقل العقل" كفكرة محورية في الفلسفة الكلاسيكية والمعاصرة، حيث يعتبر أن التفكير النقدي الذي يمارسه العقل على ذاته هو جوهر التفكير الفلسفي منذ سقراط. ويرى أن العقل يسعى من خلال هذه العملية إلى فهم أدواته ومنهجيته، ويسعى لتجاوز العوائق والمحدودات التي قد تعيقه عن الوصول إلى المعرفة الكاملة. إذ يرى العروي أن العقل، من خلال التفكير في ذاته، يعترف ضمنياً بأنه ليس مطلقاً أو معصوماً، بل هو عرضة للمراجعة والتمحيص.
إضافة إلى ذلك، يناقش العروي كيف أن "عقل العقل" ليس فقط أداة لفهم المعرفة، بل هو أيضاً أداة للتغيير؛ فالعقل النقدي الذي يفكر في نفسه يمكن أن يقود إلى تحسين طرق التفكير وتطوير المعرفة الإنسانية. ويشير العروي إلى أن التاريخ الفلسفي مليء بمحاولات استخدام العقل كأداة للتغيير الاجتماعي والسياسي؛ إذ إن "العقل الذي يفكر في ذاته هو في الحقيقة العقل الذي يراجع مساراته السابقة، ويعيد تقييمها بهدف تطويرها وتحسينها"، بحسب تعبيره.
في هذا الإطار، يطرح العروي تساؤلاً حول كيفية تعامل الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين مع فكرة نقد العقل لذاته؛ حيث يستعرض بعض الأمثلة من الفكر الإسلامي، وخاصة محاولات الفلاسفة مثل ابن رشد والفارابي في محاولة تأسيس عقل نقدي إسلامي يتعامل مع النصوص الدينية بعقلانية منفتحة.
يشير العروي إلى أن الفكر العربي الإسلامي كان في فترة من فتراته الزمنية المبكرة يحاول بناء "عقل العقل"، من خلال التوفيق بين النصوص الدينية والتفكير الفلسفي. لكن مع تراجع هذه النزعة النقدية في الفترات اللاحقة، أصبح العقل العربي محصوراً في إطار التقليد وعدم التجديد. لذلك، يرى العروي أن إحياء "عقل العقل"، في السياق العربي الإسلامي، يحتاج إلى مراجعة التراث الفلسفي والنقدي الذي أهملته الأجيال اللاحقة.
وهنا، يؤكد العروي على أن "عقل العقل" ليس فقط مفهوماً فلسفياً مجرداً، بل هو عملية حيوية وأساسية لفهم التطور الفكري والإنساني. العقل الذي يفكر في ذاته هو العقل الذي يدرك محدوديته، ويسعى إلى تجاوز هذه الحدود من خلال النقد والتطوير المستمر. لكنه، في الوقت نفسه، يعترف بأن هذه العملية ليست سهلة أو خالية من التناقضات، بل هي مليئة بالتحديات والمفارقات التي تتطلب التأمل والنقد العميقين.
وختاماً، فمن خلال "عقل المطلق"، و"عقل الغيب"، و"عقل العقل"، نرى أن كتاب عبد الله العروي "مفهوم العقل: مقالة في المفارقات" ليس مجرد كتاب فلسفي يتناول قضايا تجريدية، بل هو دعوة للتفكير النقدي العميق في مفاهيم العقل والإيمان والمعرفة؛ حيث يُبرز الكتاب كيف أن العروي يستخدم أدوات الفلسفة والنقد ليعيد النظر في مفاهيم تُعتبر جوهرية في الفكر الإنساني، سواء في الفلسفة الغربية أو التراث العربي الإسلامي.
والواقع أن العروي يقدم في هذا الكتاب قراءة عميقة تتجاوز الحدود التقليدية، وتحفز على التفكير في العقل بوصفه أداة للتحليل والفهم، لكنه أيضاً كيان يحمل تناقضاته وحدوده. يُعتبر الكتاب دعوة للقارئ العربي لإعادة التفكير في مفهوم العقل، ولمراجعة العلاقة بين العقل والإيمان من خلال عدسة النقد الفلسفي التي تسعى لفهم العالم بطريقة شاملة.