مسألة الاختلاط:

التباين الفقهي في اختلاط الرجل والمرأة

مركز حوار الثقافات

11-12-2024

رغم انفتاح بعض المجتمعات على تعليم وعمل المرأة، فإن هذه المسألة لا تزال تواجه المزيد من الجدل، خاصة مع تمسك بعض الاتجاهات الإسلاموية بتحريم الاختلاط، أو فرض قيود شديدة على هذه المسألة، وهي مسألة تنضوي تحت عنوان عريض في الفقه يُعرف بـ"فقه المرأة".

ويتداخل الموقف من الاختلاط مع عدد من القضايا الرئيسية، مثل تعليم الفتيات وعمل المرأة، بما تمثله هذه المسألة من تأثيرات عميقة على المرأة، في ظل دورها الفاعل في المجتمعات المعاصرة.

تباين فقهي

تُعد مسألة الاختلاط بين الرجل والمرأة إحدى القضايا التي لا تزال مثار إشكال بين المشتغلين بالحقل الديني، وفقاً للمدونة الفقهية السائدة منذ قرون في التاريخ الإسلامي، مع الإقرار بتباين بعض المواقف والآراء الفقهية في هذه المسألة. 

ويمكن الإشارة لأبرز الاتجاهات.. كالتالي:

1 - توسيع تعريف الاختلاط: تعددت التعريفات لاصطلاح "الاختلاط" بين المرأة والرجل، ومع توصيفه بـ"الاختلاط المحرم"، وفقاً لكتاب سعيد القحطاني، بعنوان: "الاختلاط بين الرجال والنساء"؛ حيث جاءت أبرز التعريفات بأن الاختلاط: "هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم له اجتماعاً يؤدي إلى ريبة؛ أو هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد، يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم: بالنظر، أو الإشارة، أو الكلام، أو البدن من غير حائل، أو مانع يدفع الريبة والفساد".

كما أورد الكتاب تعريفات أخرى، مثل: "هو اختلاط جنسي الذكور والإناث اختلاطاً منظماً، ومقنّناً في مجال العلم، أو العمل، أو نحوهما، بمختلف الوجوه، كالاختلاط في الدراسة الجامعية، أو في ميدان العمل بالدوائر الرسمية، والمحلات التجارية، والشركات، والمعامل وغير ذلك".

ويتضح من خلال التعريفات لاصطلاح "الاختلاط"، إدخال تعديلات على بعض التعريفات، لتوسيع حالات الاختلاط بما يتناسب مع تطور المجتمعات الحديثة، بتضمين أن الاختلاط المحرم يتضمن الدراسة في الجامعة ودوائر العمل والاجتماعات والشركات.

2 - منع الاختلاط رفضاً لآثاره:إذ تميل بعض الاتجاهات إلى عدم جواز الاختلاط، انطلاقاً من آثاره المحتملة التي قد تمتد إلى محرمات، وفقاً لقول ابن القيم: "لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة؛ واختلاط الرجال بالنساء سببٌ لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام، والطواعين المتصلة"، وفقاً لمقال فهد بن عبد العزيز الشويرخ، بعنوان: "من أقوال السلف في اختلاط النساء بالرجال".

ويحدد عبد العزيز بن باز، رأيه الرافض للاختلاط بين الرجل والمرأة، معتبراً أن الشريعة لم تدعُ للاختلاط، بل تمنعه وتشدد عليه، لقول الله تعالى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ...﴾ [الأحزاب: 33]. وبالتالي، فإنه يرى أن الأفضل للمرأة أن تلزم البيوت، خوفاً من الفتنة، خاصة النساء في العصر الحالي، الذي "خلعن فيه أغلب النساء الحجاب، وتبرجن تبرج الجاهلية الأولى"، وفقاً لتعبيراته.

وفي موضع آخر، يجيز ابن باز الاختلاط في حدود ضيقة، مثل شراء الأغراض وقضاء الحاجات، ولكنه يحذر من أن يؤدي الاختلاط بين الرجل والمرأة إلى الخلوة غير الشرعية، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما".

3 - التحريم المطلق للاختلاط: تجزم بعض الآراء والفتاوى بقطعية تحريم الاختلاط بين الرجل والمرأة، وتستند إلى بعض الأدلة، وفقاً لرؤيتها، مثل الدكتور محمد صالح المنجد؛ إذ استند في رأيه إلى تفسير قول الله تعالى: ﴿... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 53]؛ إذ قال ابن كثير: "أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية؛ ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن، فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب".

كما استند في رأيه إلى أن الرسول كان يبعد صفوف النساء عن الرجال في الصلاة، ونقل عن أبي هريرة، قول الرسول: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا" [صحيح مسلم]. واعتبر المنجد ذلك الحديث دليلاً رئيسياً في تحريم الاختلاط.

4 - مستويان لاختلاط الجنسين: تُفرق بعض الآراء بين مستويين من الاختلاط بين الرجل والمرأة؛ الأول، المخالطة في إطار تلقي العلاج.. وغيرها؛ والثاني، المخالطة في الاجتماعات والمؤتمرات والحفلات ومكاتب العمل، وفقاً للدكتور محمد العريفي.

ويعتبر العريفي أن النوع الأول من الاختلاط يأتي في سياق الضرورة، كما في قصة سيدنا موسى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ وَجَدَ عَلَيۡهِ أُمَّةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَيۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِي حَتَّىٰ يُصۡدِرَ ٱلرِّعَآءُۖ وَأَبُونَا شَيۡخٞ كَبِيرٞ﴾ [القصص: 23]؛ إذ إن المرأتين خرجتا لأن أباهما شيخ كبير، وخرجتا اثنتين لتجنب الشبهات. أما في حالة النوع الثاني، في غير الضرورة، ومع عدم وجود ضوابط، يعتبر أن "الله حرم الاختلاط في جميع الشرائح"، مستنداً إلى ما وصفه بـ"20 دليلاً على حرمة الاختلاط".

5 - الاختلاط وفقاً لضوابط: بعيداً عن بعض التعريفات والآراء التي تشير إلى أن الاختلاط محرم في الأصل، أو عدم جوازه لما يترتب عليه من "مفاسد"؛ إلا أن بعض الاتجاهات ترى بأن الاختلاط ليس محرماً في ذاته، وليس هناك من نصوص قاطعة لتحريم الاختلاط بين الرجل والمرأة، ولكنها تتطرق لما وصفته بـ"الضوابط الشرعية" للاختلاط. 

الأصل الإباحة

نظراً لتأثيرات الآراء الفقهية في مسألة الاختلاط بين الرجل والمرأة، وتباين المواقف بشأنها، ومحاولة ربطها بضوابط شرعية، فإن ثمة رؤى مختلفة لما يُعرف بـ"التيار التجديدي" على اختلاف التوجهات والمناهج، تشير إلى أن الاختلاط مباح.. وأبرزها:

1 - إباحة الاختلاط وفقاً للقرآن الكريم: ترى بعض الآراء، داخل "التيار القرآني"، أن الاختلاط بين الرجل والمرأة مباح وفقاً لنصوص القرآن؛ لأن الحلال والحرام والأحكام الشرعية تستند إلى القرآن فقط، وفقاً لمقال عثمان عمران، بعنوان: "اختلاط الرجل بالمرأة في الشريعة الإسلامية".

ويبرر عمران رأيه بالإشارة إلى قول الله تعالى: ﴿يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا﴾ [الأحزاب: 32]، بأن الآية لم تأمر نساء النبي (ص) بعدم محادثة الرجال، وإنما عدم الخضوع بالقول حتى لا يطمع بهن الرجال، وما دام أن هناك حديثاً فهذا يعني وجود الرجل والمرأة معاً.

2 - لا فصل بين الرجل والمرأة اجتماعياً: يحاجج الباحث القرآني، سامر إسلامبولي، بإباحة الاختلاط بين الرجل والمرأة في الإسلام، بأن الله خلق الجنسين ليحقق التكامل فيما بينهما في وظائف الحياة وبناء المجتمع؛ وبالتالي، لا يمكن الفصل بينهما في الحياة الاجتماعية.

ويتساءل في كتابه "القرآن من الهجر إلى التفعيل": "كيف سمح الشارع بالاختلاط في الحج، أكبر عبادة اجتماعية بصورة مختلطة بين الرجال والنساء؟ ولو كان الاختلاط معصيةً لما سمح الشارع بحصوله في أكبر عبادة! وهو ما يدل على أن الأصل في حياة الناس هو الاختلاط والتعايش بين الرجال والنساء".

3 – تاريخية التمييز بين الحرائر والإماء: يربط محمد شحرور بين مسألة منع الاختلاط بين الرجل والمرأة، بسياقات تاريخية محددة، وتحديداً منذ العصر العباسي، وامتداد تلك السياقات إلى العصرين المملوكي والعثماني، فيما يتعلق بأسواق النخاسة، وعرض النساء فيها، وكان الرجال يخافون على حرائر النساء من الاختلاط.

ويقول شحرور في كتابه "أصول جديدة للفقه الإسلامي.. فقه المرأة": "لذلك عمد الرجال إلى منعهن -يقصد الحرائر- من مغادرة البيوت، وإجبارهن على تغطية وجوههن بسبب التسيب الجنسي، ونرى فيه سبباً تاريخياً اقتضاه الواقع الاجتماعي، حين كانت الإماء تسير في الطرقات وتقف في الصلاة عارية الثديين والإبطين حاسرة الرأس".

4 - مصطلح "الاختلاط" سيئ السمعة: اتصالاً برؤية "شحرور" بشأن منع المرأة من مغادرة المنزل، ومنع الاختلاط في ظل عصور "العباسي والمملوكي والعثماني"، فإن بعض الاتجاهات داخل "التيار القرآني" ترى أن أحد أسباب تحريم المجتمعات التراثية السُّنية لمسألة الاختلاط بين الرجل والمرأة، هو استمرار استخدام هذا المصطلح سيئ السمعة، الذي كان يشير إلى الانحلال الأخلاقي في التجمعات، وهو مصطلح كان شائعاً للاستخدام في العصر المملوكي، حينما كان يقال "اختلط الرجال بالنساء".

5 - تصدُّر "سد الذرائع" في الفقه: وتربط بعض الاتجاهات في التيار القرآني بين تحريم الاختلاط بين الرجل والمرأة، بتصَدُّر قاعدة "سد الذرائع" في الفقه لدى التيارات التراثية، وهي قاعدة تبيح الحظر والتحريم لبعض المسائل، انطلاقاً من التأثيرات المحتملة لإباحة هذه المسألة، بما يؤدي إلى تحريم الحلال الذي أقره القرآن الكريم، وهذا ينطبق على الاختلاط بين الرجل والمرأة.

وترى تلك الآراء أن "التعامل بين الرجل والمرأة خارج نطاق المحارم، مباح، ولكنه اختلاط إيجابي، وإذا كان من حق المسلم أن يبحث عن زوجة صالحة فمن حق المسلمة أن تبحث لنفسها عن زوج صالح، ولا يكون ذلك إلا بالتعارف عن قرب".

وختاماً، رغم تمسك بعض الاتجاهات والتيارات الإسلاموية بتحريم الاختلاط بين الرجل والمرأة، بما يفرض قيوداً على تعليم الفتيات وعمل النساء، فإن هناك مجتمعات إسلامية تجاوزت هذه المسألة إلى مشاركة النساء الفاعلة في المجتمع.

ولا يزال الجدل حول تحريم أو إباحة الاختلاط بين الرجل والمرأة قائماً، سواء داخل التيارات التقليدية التراثية بالتحريم المطلق أو وضع ضوابط شرعية، أو بينها مع بعض التيارات الفكرية التي تقول إنها تتبنى رؤية "التجديد" في الفكر الإسلامي، وترى بأن الأصل إباحة الاختلاط.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة