تجاوُز تقليد الحضارة الغربية ومحاولة استنساخها في العالم العربي، والعمل على إيجاد حداثة عربية تستفيد من العلوم الغربية، وتتسم بالإبداع والقدرة على حل الإشكاليات المتعلقة بالمجتمعات العربية، كان أهم ما يُميز المشروع الحداثي للمفكر اللبناني الراحل عبد الغني عماد (1952-2020)، الذي شغل منصب أستاذ جامعي وعميد معهد العلوم الاجتماعية بالجامعة اللبنانية.
ويُفرق المفكر اللبناني، في مشروعه الفكري، بين الإسلام التاريخي الذي يمثل الفهم البشري وفقاً لظروف تاريخية متغيرة، وبين إسلام النص المتمثل في الوحي المقدس، وإمكانية تفسيره وتأويله بما يتناسب مع التطورات التاريخية والاجتماعية.
وقد أصدر عبد الغني عماد، في حياته المهنية عشرات الكتب والأبحاث الأكاديمية والجامعية، تضمنت مشروعه الفكري؛ منها: "الهوية والمعرفة والمجتمع والدين"، و"سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات من الحداثة إلى العولمة"، و"في جينالوجيا الآخر: المسلم وتمثلاته في الاستشراق"، و"حاكمية الله وسلطان الفقيه"، و"الوحدة والتكامل بين المعوقات والممكنات وغيرها".
إشكالية رئيسية
يرى عماد أن الإشكالية الرئيسية عند أنصار الحداثة العربية، الداعين لتيار التجديد من جانب، والداعين لتيار الإحياء من جانب آخر، هي إشكالية التغيير المتمثلة في السؤال المحوري لأي مشروع نهضوي حداثي أو إحيائي: "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟"، وهو السؤال الذي فرضته على العالم الإسلامي الصدمة الحضارية، التي نتجت عن التواصل غير المتكافئ بين الحضارة الغربية وبين العالم العربي في القرن التاسع عشر، وما نتج عنها من غلبة للعالم الغربي والحضارة الأوروبية على العالم الإسلامي والعربي، وما نتج عنها من مرحلة استعمارية عانى منها العالم العربي.
يوضح عماد أن إشكالية التغيير السابقة فرضها إحساس بأهمية التغيير، وضرورة مغادرة الواقع الجامد للعالم العربي، للخروج من حالة التخلف ودائرة الانحطاط التي شعر بها العالم العربي نتيجة صدامه بالحضارة الغربية بشكل مباشر، وما تسبب فيه هذا الصدام من نتائج لصالح العالم الغربي الذي تمكن من السيطرة واستعمار العالم العربي، حسب قوله.
مواقف متكررة
يرصد عماد المواقف السائدة في العالم الإسلامي، التي تحاول الإجابة عن السؤال الرئيسي في المشاريع النهضوية والحداثية والإحيائية: "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟"، وتظهر بشكل مستمر ومتكرر وبتراتبية زمنية متوازية مع كل محاولة للإجابة عن السؤال السابق، أو الالتقاء بفكر وثقافة جديدة والاستفادة منها، وتتمثل هذه المواقف في:
- الموقف الأول، الموقف المعارض للفكر الجديد، الذي يتعلل بالخوف على التراث وأهمية الحفاظ عليه من الضياع باعتباره مصدر قوة، إضافة إلى الخشية على الهوية من الذوبان في الفكر الجديد.
- الموقف الثاني، موقف يتنبى الفكر الجديد المبني على الحضارة الغربية، ولا يرى تعارضاً بين هذا الفكر وبين الإسلام والشريعة الإسلامية.
- الموقف الثالث، موقف انتقائي، يوفق بين الموقفين السابقين، فيدعو إلى الجمع بين الطرفين المتناقضين، التراث والهوية العربية وبين الفكر الوافد من الحضارة الغربية، للاستفادة من الموقفين ومن نقاط القوة فيهما.
ويوضح عماد أن الفكر العربي المعاصر لم يتجاوز المواقف الثلاثة السابقة وما بينها من صراع فكري وحضاري؛ ويرى أن التاريخ انتصر للموقف الثالث التوافقي، الذي ينتقي ما يناسب العالم العربي من التراث ويأخذ ما يتوافق معه من الحضارة الأوروبية، ويستشهد بمواقف من التاريخ الإسلامي نجح فيها هذا المنهج التوافقي، مثل العصر العباسي الذي نجحت فيه حركة الترجمة من الفلسفة والثقافة اليونانية، وأنتجت كثيراً من المعارف والعلوم الإسلامية المتأثرة بها، وكانت سبباً في تقدم الحضارة الغربية في ذلك الوقت.
تفرقة ضرورية
يُفرق عماد بين الإسلام التاريخي وإسلام النص؛ فـ"الإسلام التاريخي" هو نمط من أنماط التدين ساد بسبب تأويلات فقهية واجتهادات بشرية، فهو "فعل اجتماعي" دفع إليه رجال الدين والفقهاء والمؤسسات الدينية؛ وفي المقابل، فإن "إسلام النص" يتمثل في الوحي المقدس، الذي يُمكن النظر إليه وتأويل معانيه بما يُسهم في حل الإشكاليات الإنسانية والمجتمعية، وفقاً للاحتياجات الحاصلة وتطوراتها التي تتغير مع الأزمنة، ما يتيح إمكانية تأويل جديدة للنص الديني بما يتناسب مع الظروف والأحداث والتطورات.
ويدعو عماد إلى التعامل مع التراث بشكل منهجي، لا سيما وأن العرب فقدوا قدرتهم على التقدم، لتجاهلهم منهج الإسلام الذي طالبهم بالنظر إلى القواعد والقوانين التي تحكم الواقع وحركته لاكتشافها، ما مكنهم من التقدم سابقاً، فلما تجاهلوا ذلك، عجزوا عن استكمال مسيرة التقدم وأصابهم الجمود والتخلف؛ وفي المقابل، يطالب بالتعامل مع الحضارة الأوروبية عبر استخدام أدواتها المعرفية والعلمية الحديثة التي أدت إلى نهضة العالم الغربي وسيادة حضارته، حسب قوله.
إشكالية التقليد
يرصد المفكر اللبناني مزية ظهرت في مراحل تراثية، تتمثل في الاجتهاد العقلي بهدف تطوير مناحي الحياة، فقد كان المسلمون لديهم حرية البحث والتجديد وإيجاد الحلول للإشكاليات، لكن تلك المزية سريعاً ما تبدلت، وحل محلها الجمود، وأصبحت المذاهب الفقهية التي تُنسب لأصحابها، لا للدين، لها قدسية وقوة النص القرآني، فتجمدت المذاهب وانتهى الاجتهاد وأُغلق بابه. ولأن طبيعة تلك المذاهب وقتية، فقد تجمدت بعدهم، وأصبحت قاصرة عن حل الإشكاليات التي ظهرت مع مرور الزمن، ووقفت حائلاً ضد التطور والتجديد واستئناف المسيرة الحضارية، حسب قوله.
ويتهم عماد أصحاب المشروعات الحداثية والإحيائية بالتقليد؛ فالداعون للأخذ بالحضارة الغربية والتزامها والنهل منها بالنسبة له مقلدون تقليديون، يسعون إلى تقليد التجربة الغربية واستنساخها؛ وفي المقابل، فإن الداعين لإحياء التراث وإعادة الاعتبار له مقلدون جامدون.. فالتياران، تيار المعاصرة وتيار الأصالة، يتبعان التقليد دون أي اجتهاد عقلي، الأمر الذي يستلزم قراءة عقلية مستنيرة للتراث وللحضارة الغربية، ولكل الإسهامات الفكرية الحضارية في تاريخ البشرية، مع مراعاة بُعدين أساسيين في هذه القراءة العقلية الجديدة، هما بُعد الذات وبُعد الآخرين، حسب قوله.
عوائق الحداثة
يوضح عماد أن المشكلة الحداثية التي يُعاني منها العالم العربي هي غياب المشروع الحداثي النهضوي، الذي يتعامل وفق منهجية تنظر إلى الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لبدء تطوير هذا الواقع بمفرداته السابقة، تطويراً يتناسب مع العالم العربي. فالحداثة لا يمكن استيرادها في شكل قوالب واختراعات جاهزة، بل هي حل مبدع لإشكاليات الواقع بتجلياته، دون الانشغال بالجدليات الثنائية التي يقع فيها أصحاب المشروعات الحداثية.
ويرى أن من العوائق التي تقف أمام الحداثة تجاهل إشكاليات المجتمعات العربية، والتعامل معها وفق ثنائيات جدلية متناقضة ينشغل بها أصحاب المشروعات الحداثية، مثل ثنائية الأصالة والمعاصرة، والتراث والجديد، والعقل والنقل، والدين والعلم؛ الأمر الذي يدفع أصحاب المشروعات الحداثية إلى عملية جدلية دائمة ومستمرة، تؤثر سلباً في المشروع الحداثي وتدفع إلى الحلول التوافقية.
يقول عماد إن عملية التحديث تتمثل في "الاستيعاب والقدرة على التجاوز"؛ أي استيعاب التراكم المعرفي في الحضارة الغربية، واستيعاب العلوم التقنية والإنسانية التي أدت إلى الحداثة الغربية، والقدرة على تجاوزها عبر إضافة نوعية تُسهم في تغيير مجرى المعرفة العلمية التراكمية، التي تتناغم مع واقع العالم العربي وخصوصياته، لإيجاد حلول مبدعة تحقق الحداثة للعالم العربي، وتدفع به إلى مجرى التاريخ والحضارة، حسب قوله.
ولتحقيق فكرة الحداثة في العالم الإسلامي، يطالب عماد بتفعيل مبدأ المواطنة، التي يتساوى فيها جميع المواطنين، بصرف النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية والطائفية، لا سيما وأن الإسلام رسالة وعقيدة، لم يتدخل في شكل الدولة ولم تكن الدولة ركناً من أركان الإسلام، بعكس ما حدث في مراحل تاريخية تراثية من صنع البشر صدّرت الدولة على أنها ركن من أركان الدين عكس الحقيقة.
وختاماً، يرى عماد أن المواطنة والمساواة يُسهمان بشدة في تفعيل الحرية الفكرية والقدرة على الإبداع، لتحديد الإشكاليات وأسبابها وكيفية مواجهتها، والتغلب عليها عبر إيجاد حلول مبدعة لها، الأمر الذي يستلزم التحرر من السلطة الدينية ومآلاتها، لا سيما وأن الإسلام يخلو من الكهنوت والسلطة الدينية، الأمر الذي يؤكده جوهر الإسلام وحقيقته، فيمكن للعالم العربي تجاوز إشكالياته وتحقيق حداثته، حسب قوله.