صلاة الجمعة:

دلالة النداء القرآني في التخصيص الزمني

مركز حوار الثقافات

24-07-2025

لا توجد لدى المصادر الإسلامية التقليدية مدونات كاملة لـــ"خطب الجمعة" المنسوبة مباشرة إلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام، على الرغم من وجود آلاف الأحاديث المنسوبة إليه؛ الأمر الذي يثير تساؤلات إشكالية حول الأسباب التي دفعت إلى عدم تدوين خطب النبي في صلاة الجمعة، وهو ما يدفع الباحث نحو قضايا أخرى شائكة حول المقصود بصلاة الجمعة، وكيفية تطور الخطبة بصيغتها التي نعرفها اليوم.

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٭ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٭ وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡواً ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [الجمعة: 9 - 11].

يمكن القول إنّ أسلوب النداءِ هنا يدلُّ على عموم الصلاة وخصوص زمانها، لا على صلاة واحدة في يوم الجمعة، وإلّا قال: إذا نودي لصلاة الجمعة؛ لأنَّ المرادَ الإشارة إلى كل الصلوات ثمّ تخصيصها بزمان هو يوم الجمعة. ذلك أنّ ظرف الزمان هنا لا يعني "تسمية" الصلاة بأنّها "صلاة الجمعة"، بل يبيّن موعد النداءِ لها: أي حين يُرفع الأذان في أي صلاة في ذلك اليوم. فظرف الزمان هنا يُقيّد وقوع النداء ووجوب الحضور، وليس صفةً للصلاة نفسها. 

ولولا هذه الصياغةُ، لكان النداء محصوراً في "صلاة الجمعة" فقط، والمراد التشديدُ على حضور صلاة الجماعة يوم الجمعة تحديداً عند النداء.

سمات خاصّة

كان ليوم الجمعة في مكة سمات خاصّة؛ فمع توسّع الحياة الحضرية، أصبح الجمعة يوم تجمع تجاري دائم، وليس موسمياً فقط؛ إذ كانت القوافل التجارية تصل أسبوعياً، وتُقام الصفقات، ويتبادل الناس السلع والأخبار، ممّا دفع إلى تنظيم هذا اليوم، ليصبح مزيجاً بين أنشطة السوق اليومية، وصفات الأسواق الكبرى. 

وحسب سامر إسلامبولي، فإنّ يوم الجمعة كان يُعرف في الجاهلية باسم "يوم العروبة". وهذا الاسم كان يشير إلى يوم اجتماع العرب للتشاور وحل مشكلاتهم؛ لكنّه لم يكن مرتبطاً بشعائر دينية. ومع بداية الإسلام، ظهر اسم "يوم الجمعة" ليحل محل "يوم العروبة". والتسمية الواردة في سورة الجمعة، لم تكن مجرد تغيير لفظي، بل حملت دلالة جديدة ترتبط بالعبادة الجماعية(1). 

هذا التجمع الكبير كان مناسبة مثالية للدولة الجديدة، تعمل من خلالها على محورين: الأول، تحقيق وتكريس تماسك المجتمع الجديد عبر ربطه بصلوات الجماعة طوال اليوم، وما يتخللها من طقوس اجتماعية وتآزر وارتباط تحت إشراف النبي الخاتم وتوجيهاته. والثاني، دعوة غير المسلمين الذين يتوافدون على مكة في ذلك اليوم إلى الإسلام؛ إذ كانت القوافل التجارية تتجمع، وتُعرض السلع من اليمن والشام والحبشة، إضافة إلى الأنشطة الأدبية والمنافسات الرياضية، خصوصاً في سوق عكاظ الشهيرة وأسواق أخرى مثل مجنة وذي المجاز. 

وعليه، كان تأكيد ضرورة ترك البيع والشراء في أوقات الصلاة من يوم الجمعة، لتحقيق غاية الاجتماع والدولة. ومن ثَمّ، يمكن الاتفاق مع ابن يسار، الذي انفرد بتأكيد أنّ سورة الجمعة مكية، وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد، مخالفاً ما ذهب إليه الجمهور(2).

دلالات المعنى

من جهته، يرى محمد شحرور أنّ الخطاب القرآني لم يخصص منهجاً للخطبة في أي من صلوات يوم الجمعة، لكنّه شدّد على عدم الانصراف عن الصلاة، والانغماس في التجارة واللهو، كما هو معروف في ذلك اليوم. ويربط شحرور بين غياب أي نصّ لخطبة الجمعة، ومدى تدرج التشريع والتوجيه في الإسلام، فالخطبة الرسمية صيغت لاحقاً كجزء من الفقه والتقاليد السياسية بعد وفاة الرسول. 

ويمكن القول إنّ الانتقال من خطاب الدعوة العام التلقائي إلى الخطبة الجامعة المرتبة، مرّ بمحطات سياسيّة واجتماعية، ولا يوجد ما يثبت صدور نصٍ قاطع من النبي بخطبة جمعة محدَّدة. 

أمّا سامر إسلامبولي، فيتوقف عند دلالة استخدام "من يوم" في النص القرآني، فيشير إلى أن ذلك تحديد زمني دقيق، فحرف "من" هنا يُفيد ابتداء الغاية الزمانية، ممّا يعني أنّ النداء للصلاة يبدأ من وقت معين في يوم محدد، وهو يوم الجمعة؛ كما أنّ استخدام حرف "من" يعزز الفهم بوجود وقت محدد في يوم محدد يُنادى فيه للصلاة، وليس أي وقت في أي يوم. هذا الحرف يثبت وجود التزام بوقت معين للصلاة، مما يجعل اليوم مميزاً من غيره.

وعن ذكر كلمة "الصلاة" في النص، يُوضح إسلامبولي أنّ الجمع ليس مجرد اجتماع عادي، بل هو اجتماع لغرض ديني محدد. الصلاة تُعطي هذا الجمع طابعاً عبادياً بمفهومها العام (الصلاة التعبدية والصلاة الاجتماعية)، وتحدد غايته. لو كان النص يقصد أي جمع لكان يمكن أن يأتي دون ذكر الصلاة، مثل: "إذا نودي للجمعة فاسعوا إلى ذكر الله"، ولكن ذكر الصلاة يؤكد أنّ المقصود هو جمع لعبادة فردية ضمن تجمع؛ والنص جاء ليوضح أنّ هذا الجمع خاص بالصلاة، ممّا يُثبت أنّ هذه الصلاة تُمارس كعبادة جماعية معروفة، ومحددة في يوم الجمعة.

وعن الفرق بين "الجُمعة" و"الجَمعة"، يقول إسلامبولي إنّ دلالة الضم في كلمة "الجُمعة" تشير إلى يوم محدد من الأسبوع، بينما "الجَمعة" بفتح الجيم تشير إلى أي جمع بصرف النظر عن الزمن. هذه الدلالة اللسانية توضح أنّ النص يتحدث عن يوم محدد مخصص لعبادة معينة، وليس عن أي جمع في أي يوم. والضم في "الجُمعة" يحدد المعنى ويجعله مرتبطاً بيوم محدد، ممّا يتماشى مع النصوص الشرعية، التي حددت يوم الجمعة كيوم عبادة جماعية.

وعن عدم وجود خُطب للنبي، يرى إسلامبولي أنّ ذلك قد يكون نتيجة للتركيز على نقل الأحكام الشرعية، بدلاً من الخطب العامة. فالمجتمع الإسلامي المبكر اعتمد بشكل كبير على النقل الشفهي، ومعظم الخطب لم يُسجل أو لم يُحفظ كاملاً، فليس كل ما فعله النبي أو نطق به غير القرآن تمّ حفظه ووصل إلينا، وهذا يدل على أن موضوع الخطب كان موضوع الساعة، يتعلق بالأحداث والموعظة والنصح، وليست مفاهيم دينية أو أحكاماً شرعية ليهتم بها المسلمون، رغم نقل أجزاء من بعض الخطب.

وعليه، فإنّ صلاة الجمعة، ليست مجرد عبادة دينية؛ بل هي أيضاً حدث اجتماعي يُعزز التواصل بين أفراد المجتمع، وينشر التعاون والتكافل بينهم، ويظل رمزاً دينياً وثقافياً يجمع المسلمين في يوم محدد من كل أسبوع، حسب إسلامبولي(3).

مرونة التحديد 

بدوره، يركز عدنان إبراهيم على الجانب السياسي، لافتاً إلى أنّ الهدف السياسي كان إسباغ المعنى الديني، عبر الاهتمام الظاهري بالشعائر من أجل مراقبة المعارضة بالدرجة الأولى؛ فكان أمراء الولايات يؤخرون الصلوات عن أوقاتها بشكل كبير، بحيث يتم أداء صلاة الجمعة قبيل المغرب في البصرة أيام الحجاج، وكانوا أحياناً يصلون الجمعة في آخر وقت العصر، فكان أكثر من يأتي إلى الجمعة يصلي الظهر والعصر في بيته، ثم يحضر إلى المسجد تقية. 

وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري البصري، في كتاب "أدب السلطان"، باباً في تأخير الأمراء لصلاة الجمعة، خرج فيه الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة في ذلك(4).

وختاماً، يمكن القول إنّ عدم التحديد القرآني لموعد صلاة الجمعة بالتحديد، منح الحكام والأمراء أريحية في تأخيرها؛ وقد يعود ذلك، بجانب البُعد السياسي، إلى أبعاد أخرى اقتصادية واجتماعية، وكذا عوامل الطقس في ظل ارتفاع درجات الحرارة في وقت الظهيرة، الأمر الذي يطرح بدوره مزيداً من التساؤلات حول مرجعية التحديد الصارم لموعد صلاة الجمعة، والإصرار على ربطه بوقت الظهيرة.

الهوامش

1 - سامر إسلامبولي: الموقع الرسمي

https://samerislamboli.com/?p=7608 

2 - تفسير الآلوسي ج 28 ص92. 

3 - سامر إسلامبولي: الموقع الرسمي

https://samerislamboli.com/?p=7608

4 - عدنان إبراهيم: الموقع الرسمي

http://www.adnanibrahim.net/%D8%AA%D8%B3%D9%8A%D9%8A%D8%B3-%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%A8%D9%86-%D9%81%D8%B1%D8%AD%D8%A7%D9%86/

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة