سقيفة بني ساعدة:

دلالات الاجتماع السياسي الأول في الإسلام

مركز حوار الثقافات

09-04-2025

وعد القرآن المسلمين بالنعيم في الحياة الدنيا والآخرة. وقد وردت الإشارة في بعض آيات التنزيل الحكيم إلى غلبة المؤمنين على حكم الدول والممالك، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ...﴾ [الأعراف: 137].. وقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]. 

وبالرغم من ذلك لم يقدم النص القرآني آلية واضحة لاختيار الحاكم أو السلطان، الأمر الذي تسبب في ظهور عدة طرق لاختيار الخلفاء والسلاطين عبر التاريخ. في العام الحادي عشر من الهجرة، وبعد ساعات معدودة من وفاة النبي، شهدت سقيفة بني ساعدة اختيار الخليفة الأول أبي بكر الصديق. وحظيت الأحداث التي وقعت في تلك السقيفة بأهمية كبرى في الوعي السياسي الجمعي عند المسلمين عبر القرون.

اجتماع سياسي

بالرغم من أهمية تحديد خليفته لضمان استقرار أحوال دولة المدينة، فإن النبي لم ينص صراحةً على اختيار شخص معين. وتذكر الروايات أن النبي أشار في بعض الأحيان إلى البعض من كبار الصحابة، ومنهم على سبيل المثال أبو بكر الصديق، الذي أمره النبي بإمامة المسلمين في صلاة الجماعة في الأيام الأخيرة من حياة النبي، وعلي بن أبي طالب الذي أكد النبي مكانته عندما قال للمسلمين يوم "غدير خم"، في عام 10هـ: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه". 

من الممكن أن نتفهم عدم وجود نص صريح في تحديد شخص الخليفة، في ضوء الأوامر القرآنية العامة التي أشارت إلى مسؤولية جماعة المسلمين في تحديد القرارات المهمة المتعلقة بمصائرها، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ...﴾ [الشورى: 38].

وتتفق معظم المصادر التاريخية الإسلامية على أن النبي قد توفي في الثاني عشر من شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة. وتذكر تلك المصادر أن كثيراً من الصحابة انشغلوا بغُسل النبي وتجهيزه تمهيداً لدفنه، فيما اجتمع عدد كبير من الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتشاور في أمر اختيار الحاكم الجديد للدولة الإسلامية. 

وحسب ما يذكر ابن جرير الطبري، في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، فإن أبا بكر وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح لمّا عرفوا بأمر اجتماع الأنصار، انطلقوا إلى السقيفة واجتمعوا مع الأنصار للتشاور في موضوع خلافة النبي. 

بشكل عام، ورغم كثرة الاختلافات التي تحيط بتفاصيل هذا الاجتماع، تتفق المرويات على أن الأنصار قدّموا سعد بن عبادة الخزرجي باعتباره مرشحهم لشغل منصب الخلافة، الأمر الذي رفضه المهاجرون الثلاثة الذين حضروا الاجتماع. ومن ناحيتهم، عبّر الأنصار عن وجهة نظرهم في أحقيتهم بأمر الخلافة، فقال أحدهم: "أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا، وتحصنونا من الأمر". 

رد عليه أبو بكر عندها فقال: "إن هذا الأمر -يقصد الخلافة- إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عنه الخزرج". بعدها، عمل الصدّيق على شرح حجة المهاجرين، فقال: "ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش -يقصد المهاجرين- هم أوسط العرب نسباً وداراً...". 

أمام تلك الحجج المتبادلة من الطرفين، تصاعدت حدة النقاش وساد الصخب، واحتدم الخلاف بين المهاجرين والأنصار؛ الأمر الذي وصفه أبو المعالي الجويني، في كتابه "غياث الأمم في التياث الظلم"، على نحو دقيق؛ إذ قال: "تفرقت الآراء، وتشتت الأهواء، وكشرت عن أنيابها الداهية الدهياء، وغشي المسلمين المعضلة الزباء، وامتدت إلى الشقاق الأعناق، وتخازرت الآماق، واشرأب النفاق، وجحظت نحو ارتقاب تقطع الأنساب الأحداق، وتقلقلت لمثار الفتن في أغمادها البيض الرقاق...".

بيعة الصِّديق

تذكر الروايات أن أبا بكر الصيق دعا المجتمعين لمبايعة أحد الرجلين، عمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح. رفض عمر هذا المقترح، وحسم الخلاف عندما مد يده وسارع إلى بيعة أبي بكر، فبايعه الحضور إثر ذلك واحداً بعد آخر. بعدها، "كثر الناس على أبي بكر، فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم..."، وذلك حسب ما يذكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري البصري، في كتابه "السقيفة وفدك".

بعد أن تمت مراسم البيعة، تولى أبو بكر مقاليد السلطة في الدولة الإسلامية، وعُرف بلقب "خليفة رسول الله"، بما يعني أنه -أي أبا بكر- قد صار مشرفاً على جميع الولايات الدينية والدنيوية داخل المجتمع المسلم. وخطب بعدها خطبته الشهيرة التي بيّن فيها المعالم الرئيسة لسياسته، فقال: "أما بعد، أيها الناس، فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله"، وذلك حسب ما يذكر ابن كثير الدمشقي، في كتابه "البداية والنهاية".

نتائج السقيفة

تُعّد سقيفة بني ساعدة أول اجتماع سياسي في تاريخ الدولة الإسلامية. أسفر ذلك الاجتماع عن عديد من النتائج المهمة، التي أثرت -إلى حد بعيد- في تشكيل ملامح الوجدان السياسي الجمعي عند المسلمين.

من جهة، تسببت نتائج السقيفة في ظهور بعض حركات المعارضة داخل المجتمع الإسلامي. على سبيل المثال، رفض مرشح الأنصار، سعد بن عبادة مبايعة أبي بكر بالخلافة، فكان "لا يصلي بصلاتهم -يقصد أبا بكر والمهاجرين- ولا يجتمع بجماعتهم ولا يقضي بقضائهم ولو وجد أعواناً لضاربهم"، وذلك حسب ما يذكر الجوهري في كتابه. كذلك، أثارت مبايعة أبي بكر غضب الهاشميين، الذين كانوا يرون أنفسهم الأحق بخلافة النبي. على سبيل المثال، ذكر اليعقوبي في تاريخه أن الفضل بن العباس بن عبد المطلب خطب في القريشيين قائلاً: "يا معشر قريش، ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا -يقصد علي بن أبي طالب- أولى بها منكم". 

وقد شكّل هذا الخلاف البوادر الأولى للانقسام الكبير الذي سيحدث في ما بعد، الذي سيصل إلى مداه مع افتراق المسلمين في مرحلة لاحقة إلى "سُنة" يقبلون بنتائج السقيفة، و"شيعة" يعدّونها خروجاً عن الأوامر الإلهية التي نصت على إمامة علي بن أبي طالب.

من جهة أخرى، ورغم الأهمية البالغة لحادثة السقيفة في تغيير مسار التاريخ الإسلامي، فإن المسلمين رفضوا الاحتكام إليها في ما يخص اختيار الخلفاء المستقبليين لهم. 

وختاماً، تذكر روايات تاريخية أن عمر بن الخطاب لمّا سمع بعض الصحابة يقولون إنهم سيختارون فلاناً للخلافة عقب وفاته، فإنه -أي عمر- نهاهم عن ذلك وقال: "كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقانا الله شرها". وتعبر تلك الرواية عن الظروف الاستثنائية التي وقعت فيها أحداث اجتماع السقيفة، وكيف أنها لم تكن عملاً مُخططاً له، بقدر ما كانت وليدة لبعض الظروف الوقتية، التي اختلط فيها حبل السياسي بنابل الديني.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة