استلهام القيم الكونية ومراعاة الخصوصية الثقافية هي سمة رئيسة في مشروع المفكر المغربي سعيد بن سعيد العلوي (1946م)، الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة محمد الخامس، ويشغل مناصب أكاديمية بها وبكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمغرب؛ إذ يدعو إلى تبني منهج عقلي صارم في نقد التراث ومواجهة التيارات الأصولية، مقدماً رؤية مميزة للهوية تسمح بإنتاج الحداثة وإعادة العالم العربي إلى السياق الحضاري العالمي. وقد عبّر العلوي عن مشروعه الحضاري في عديد من مؤلفاته، مثل: "الإسلام وأسئلة الحاضر"، و"الأيديولوجيا والحداثة: قراءات في الفكر العربي المعاصر".
سياقات التراث
يرتكز مشروع العلوي الفكري على النقد الصارم للتراث والجمود الفكري والتقليد، ويراها عائقاً رئيساً أمام المجتمعات العربية لإحداث تقدمها الحضاري؛ ورغم نقده التراث فإنه لا يدعو إلى قطيعة معرفية كاملة معه، بل يذهب إلى إعادة قراءته بهدف "نقده وتفكيكه وتحليله فلسفياً"، لإعادة فهم بنيته المعرفية، والاستفادة منها في فهم الحاضر، لا سيما أن "الوقوف عند الماضي دون مساءلته يؤدي إلى تكريس التخلف وإعاقة التطور".
والتراث عند العلوي ليس كتلة صلبة جامدة، بل يحمل سياقات مختلفة، ذات طابع تاريخي واجتماعي محدد وفقاً لحركات التاريخ والمجتمع، الأمر الذي يوجب التعامل مع التراث ونقده بشكل "ديناميكي تفاعلي"، يضع في اعتباره التطورات المتتالية، ويجعل من الممكن تجاوز القراءات الحرفية والنقلية للتراث، وإيجاد قراءات تأويلية عصرية تُستنبط منها معانٍ جديدة وفق أساليب حديثة.
ويدعو العلوي إلى التفاعل الخلاق بين التراث والحداثة، لإحداث مشروع حضاري خاص بالعالم العربي، يراعي خصوصيته وتفرده عن الحضارة الغربية، داعياً إلى تكييف النموذج الحضاري والحداثة الغربية مع الخصوصية الثقافية للعالم العربي؛ ومشدداً على أهمية استلهام القيم الكونية للحداثة، مثل العقلانية والعلوم الحديثة ومناهجها العقلية والنقدية، وهي قيم تتماثل مع قيم تراثية إيجابية مهدرة، مثل العدل والتسامح والمساواة والعقلانية التي نادى بها الإسلام، إضافة إلى الإنتاج الفلسفي المتميز.
النهضة والحداثة
يقدم العلوي مفهوماً متميزاً عن الأصالة، ويرى أنها "القدرة على التفاعل الواعي والناقد مع الثقافات الأخرى"؛ إضافة إلى إمكانية استيعاب كل ما هو مفيد وتوظيفه في تحقيق مشروع حداثي نهضوي للعالم العربي، قادر على إيجاد حلول مبتكرة عبر التفاعل الحي مع المعطيات الحضارية المعاصرة، وفي الوقت نفسه الحفاظ الهوية الثقافية المتميزة للعالم العربي. وينتقد العلوي التعامل مع مفهوم الأصالة، من حيث إنه مفهوم يكرس الانعزالية والانغلاق على الذات، ورفض الآخر ومنجزاته الحضارية والفكرية؛ فـالأصالة عنده هي "القدرة على أن نكون ذواتاً فاعلة ومؤثرة في المشهد الحضاري".
وهدف المشروع الفكري عند العلوي هو تحقيق "النهضة والحداثة" في العالم العربي، الذي لن يتم إلا عبر حرية الإبداع والعقل والفكر والثقافة. ودون هذه الحرية لا يمكن تحقيق أي نهضة حقيقية في العالم العربي، فـ"المجتمعات التي تكبت حرية التعبير وتضيق على الفكر، محكوم عليها بالتخلف والجمود"، ما يوجب تحرير العقل العربي من القيود التقليدية والتابوهات الاجتماعية والسياسية والدينية التي تعوق انطلاقه، مع أهمية قبول الاختلاف والتعدد وتشجيع الحوار بشقيه الداخلي والخارجي، وتأكيد أن "التنوع الثقافي مصدر قوة وإثراء للمجتمع".
اختزال الإسلام
في سبيل إزالة المعوقات أمام الحداثة العربية، ينتقد العلوي ما وصفه بـ"الرؤية الاختزالية للإسلام التي تنتزعه من سياقه العالمي"، وتتصف بها التيارات الأصولية التي تقدم فهماً سطحياً مختزلاً للإسلام، ينتزعه من سياقه الإنساني والعالمي ويختزله في "طقوس ومظاهر" ونصوص جامدة وقواعد فقهية ضيقة، ما يُفقد الإسلام سماته الروحية والإنسانية والعالمية وينتزعه من سياقه الكوني.
ويصف العلوي مفهوم الدولة الإسلامية الذي تروج له التيارات الأصولية بـ"الوهم التاريخي والسياسي"، الذي لا يستند إلى أساس متين في الإسلام ونصوصه المؤسِّسة التي يدعون أنهم يستندون إليها، ويجتهد في تفكيكها؛ إذ يرى أن الدولة في الإسلام منذ بداياته، وفي عصور شهد فيها قوة حضارية، كانت دولة مدنية غلب عليها طابع التعدد والتنوع وقبول الآخر؛ في حين أن ما تدعو إليه التيارات الأصولية من مفهوم لـ"الدولة الإسلامية"، ما هو إلا خطاب انتقائي توظيفي، لتحقيق أغراض تلك التيارات دون الاهتمام بحقيقة الإسلام.
علمانية منفتحة
من الآفات التي يفرضها التيار الأصولي التفسير الحرفي للنصوص الدينية، وفقاً لـ"العلوي" الذي يدعو إلى تجاوز هذا التفسير الحرفي، حيث إنه يدور في سياقات الماضي دون مراعاة التطورات التاريخية والمجتمعية. ومن ثَم، يدعو العلوي إلى قراءة النصوص قراءة جديدة في سياقها التاريخي والمجتمعي والثقافي، ويشدد على أهمية استخدام العقل والاجتهاد في فهم مقاصد الشريعة، وربطها بالمستجدات العصرية، موضحاً أن التمسك بالقراءات الحرفية للنصوص التراثية والدينية يؤدي إلى جمود وتخلف، وإعاقة لتطور الفكر والمجتمع، ويضعه تحت سلطة التيارات الأصولية.
ويدعو العلوي إلى "العلمانية المنفتحة" التي تفصل بين الدين والدولة، وتحترم حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، التي يمكن تطبيقها عبر إيجاد دولة مدنية تقوم على المواطنة وحقوق الإنسان وسيادة القانون والمساواة الكاملة، وهو أمر وفقاً لـ"العلوي" قادر على تجاوز التطرف والجمود الذي تدعو إليهما التيارات الأصولية، كما أنه قادر على تصحيح صورة الإسلام المشوهة التي تسببت فيها التيارات الأصولية.
خطوات حضارية
يضع "العلوي" خطوات يجب المضي فيها لتحقيق أي تقدم حضاري في العالم العربي، منها:
- تحديث المؤسسات: وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية حديثة، تفتح المجال للمشاركة الواسعة لفئات المجتمع كلها، وفق مبادئ سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان.
- تطوير التعليم والبحث العلمي: عبر بناء نظام تعليمي عصري، يركز على تنمية القدرات العقلية والإبداعية، ودعم البحث العلمي والتكنولوجي.
- التنمية الاقتصادية والاجتماعية: بناء اقتصاد منتج ومتنوع، يوفر فرص العمل ويحقق العدالة الاجتماعية ويقلص الفوارق الطبقية.
- تعزيز الوحدة والتكامل العربي: عبر العمل على تحقيق قدر أكبر من التعاون والتكامل بين الدول العربية في مختلف المجالات.
- الانفتاح الواعي على العالم: عبر التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى، واستيعاب المعارف والتقنيات الحديثة، مع الحفاظ على الهوية الثقافية.
يقول العلوي مؤكداً على أن "السير في الخطوات السابقة أمر سهل ويتطلب الوعي بأهميتها، وقدرتها على تحقيق المشروع الحضاري في العالم العربي".
والحداثة عند العلوي ليست نموذجاً واحداً يجب اتباعه والتزامه ونسخه، بل هي مسار فكري مفتوح قابل للتطور والتجديد، يمكن من خلاله تجاوز "الثنائيات السائدة بين الشرق والغرب وما يُسفر عنها من سلبيات"، ما يُمكّن العالم العربي من تقديم حداثته الخاصة، التي تستفيد من الحداثة الغربية، وتضع في اعتبارها القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية التي تميز الثقافة العربية.
هذه الحداثة، في رأي العلوي، يمكنها تقديم حلول مبدعة أمام الإشكاليات التي يواجهها العالم العربي وتستجيب لاحتياجاته، دون استنساخ أي نموذج من الماضي أو من الحضارة الغربية؛ بل تؤسس لحداثة عربية خاصة قادرة على تجاوز الثنائية التقليدية بين الشرق والغرب، ولا تكون تقليداً أو استنساخاً للحداثة الغربية، بل تستلهم من القيم الإسلامية وتستجيب لتطلعاتنا واحتياجاتنا الخاصة.
وختاماً، يشدد العلوي على أهمية تجاوز الجمود الفكري والتبعية الثقافية، وتأسيس حداثة عربية تستلهم قيم العقل والحرية، وتتفاعل بوعي مع التراث والمعطيات الحضارية المعاصرة، مع الاعتراف بأهمية العقل النقدي ورفض التسليم بتقديس التراث، وضرورة مواجهة التيارات الأصولية وخطابها الذي تسبب في تشويه صورة الإسلام، كما يدعو إلى "تكامل مصادر المعرفة وعدم إقصاء أي منها"، حتى يمكن تحقيق نهضة وحداثة عربية.