المشروع النهضوي:

تنمية الوعي في مواجهة الاستلاب الحضاري

مركز حوار الثقافات

21-07-2025

في كتابه "المشروع النهضوي العربي"، يوضح المفكر السوري برهان زريق (1933-2015م)، أهمية الوعي بالذات العربية وضرورة انتشالها من حالة "الاستلاب الحضاري والثقافي" التي تعانيها، داعياً إلى تحقيق ذلك عبر تحرير الذات العربية فكرياً ومجتمعياً واقتصاديا، ما يحقق تجدداً حضارياً يجب أن يظل حتى يمكن تغيير الواقع العربي وبناء مستقبل حضاري.

مشروع النهضة

يوضح "زريق" أن مشروع النهضة العربية مشروع هام وضرورة حتمية للعالم العربي، لا بد أن ينطلق من "الوعي بالذات الحضارية"، وأهمية وجود مشروع نهضوي شامل يضع في اعتباره واقع العالم العربي الثقافي وتطلعاته، وهو الأمر الذي لن يتأتى إلا بالفاعلية التي تضع في اعتبارها الحداثة ومفاهيمها والهوية وخصائصها في آنٍ.

يقول الكاتب إن العالم العربي يعاني حالة من التخلف والضعف، وهي حالة لها أسباب، منها:

الاستعمار الغربي، الذى عانى منه العالم العربي في ما سبق؛ ومنها: فشل النخُب العربية المثقفة في تحقيق تنمية حقيقية، أو إيجاد مشروع نهضوي يمكن تطبيقه في العالم العربي ومجتمعاته.

ويذهب المؤلف إلى أن "الوعي بالواقع العربي"، و"تشخيص أسباب التخلف والجمود"، شرطان أساسيان لتحقيق أي تجديد أو "نهضة عربية"، لا سيما أن العالم العربي يُعاني حالة "استلاب حضاري"، يستلزم الخروج منها وجود بنية فكرية عربية، واعية ومدركة لحقيقة التخلف الذي يعاني منه العالم العربي، ولديها استعداد عقلي وذهني ونفسي لتغير هذه الحالة.

ويرى زريق أن "التحرر الكامل" يجب أن يكون جوهر أي مشروع نهضوي في العالم العربي، ويُعرِّف التحرر الكامل بأنه "تحرر العقل من الجهل والخرافة والتقليد، وتحرر الإرادة من القهر والاستبداد، وتحرر المجتمع من الفقر والفساد، ما يُمثل ثورة فكرية تهدف إلى القضاء على أنماط الفكر الغيبي والخرافة السائدة في العالم العربي، وتُكرس للتفكير العلمي والنقدي والمنهجي، ويرسخ العقلانية في المجتمعات العربية". ولتحقيق هذا التحرر، لا بد من خوض صراعات مع معوقات النهضة، كالجهل والتخلف والتبعية، ومواجهة الأفكار "اللا علمية السائدة في العالم العربي".

تجدد حضاري

يدعو زريق إلى ثورة شاملة على أنماط التفكير التقليدية، وعلى الأوضاع المجتمعية السائدة، والأنماط الاقتصادية المتخلفة، لاقتلاعها من جذورها؛ إذ إن الإصلاح التدريجي لن يحقق نهضة حقيقية ولن يتجاوز كونه "تحسينات سطحية"، تقدم "مظهرية حضارية" دون تغيير حقيقي واقعي. ومن ثَم، وكما يقول الكاتب بأن الثورة الفكرية تستلزم جهداً كبيراً ومستمراً، لا سيما أن النهضة "عملية تاريخية تستند إلى تراكم الجهود الفكرية والاجتماعية والتفاعلات الحداثية"، ما يستلزم وعياً بالتحولات المجتمعية والتغيرات قصيرة وطويلة المدى.

ويوضح زريق أن "التجدد الحضاري" شرط رئيس وفاعل لقيام أي نهضة عربية حقيقية، كما أن التجدد شرط لاستمرار وضمان لأي نهضة وحداثة؛ ويرى أن من عوامل التجدد الحضاري إعادة النظر إلى التراث، ونزع قدسيته وقراءته قراءة عقلانية نقدية، تجعل من الممكن استبعاد نقاط الضعف والتخلف والجمود، وإزالة تأثيراتها السلبية في العالم العربي؛ كما أنه لا يرفض التراث بشكل كامل؛ إذ يرى أن به عناصر حضارية، لا سيما في بعض مراحله التي اتسمت بالعقلانية، التي يرى أنه يمكن الاستفادة من روحها في تحقيق نهضة عربية.

يقول الكاتب إن عمليات التجدد، إضافة إلى اهتمامها بالتعامل مع التراث ونقده المستمر، فإنها تستوجب الاستعانة بالعلوم الغربية والمناهج الحديثة والروح العقلانية النقدية التي تتميز بها الحضارة الغربية، مع مراعاة طبيعة الهوية العربية الثقافية.

وبالرغم من أن النهضة مشروع يتعامل مع الحاضر، فإن زريق يرى أنه يجب أن يستهدف المستقبل، ويضع معالم واضحة لمجتمع عربي مستقبلي، يرسخ للعلم والتفكير العلمي، ويحرر الإبداعات الفكرية ويطلقها، ويحقق التحرر العربي في أبعاده الفكرية والثقافية والمجتمعية والاقتصادية؛ وهي مجالات فاعلها الحقيقي ومحركها هو الإنسان العربي، الذي يجب أن يوجد في مركز أي مشروع حضاري.

ويرى الكاتب أن العالم العربي في حاجة إلى "تجدد حضاري" يُحقق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية، مع الحفاظ على الهوية في التعامل مع تحدي العولمة للاستفادة منه دون ضياع الهوية العربية. هذا فضلاً عن رفضه التبعية الكاملة أو الجزئية للحضارة الغربية، وعلى رأسها الهيمنة الاقتصادية الجديدة التي يصفها بأنها "أخطر من الاستعمار التقليدي"، حسب قوله.

المعرفة والتنمية

ينتقد زريق النظم المعرفية السائدة في العالم العربي، ويصفها بأنها نظم معرفية تقليدية مبنية على التلقين وتلقي المعرفة التراثية وإعادة إنتاجها، الأمر الذي أصبح عائقاً أمام أي "معرفة إبداعية"، الأمر الذي يجب مواجهته عبر تبني المنهج العقلي النقدي الذي يرتكز على العلوم الحديثة، لتلبية حاجات المجتمع ومواجهة مشكلاته بشكل علمي، ما يجعله يُشدد على أهمية تبني البحث العلمي والتقني لإنتاج معرفة علمية وتقنية تخرج العالم العربي من حالة "الاستلاب الثقافي والحضاري" التي يعيشها، ثم يصبح قادراً على المنافسة في مضمار النهضة والحضارة العالمية، وفقاً لقوله.

وحتى يمكن القضاء على التبعية للغرب في شتى صورها، فإن المؤلف يذهب إلى أهمية مفهوم التنمية، الذي يعتبره عنصراً محورياً في مشروع النهضة العربي؛ وهي تنمية يجب أن تكون مستقلة عن التبعية الخارجية، ونابعة من الذات العربية، وتعتمد عليها؛ وإضافة إلى كونها تنمية اقتصادية، فإن لها أبعاداً أخرى لا يجب تجاهلها، مثل التنمية في مجالات الصحة والبنية التحتية، والتنمية في مجال التعليم، الذي يشدد على أهميته، لأنها "تنمية تركز على الإنسان العربي وتُحدث أنماطه الفكرية والعقلية"، حسب قوله.

ويربط الكاتب بين التنمية وبين العدالة الاجتماعية، ويرى أن غياب العدالة الاجتماعية يؤدي إلى تفكك المجتمعات العربية وتشرذمها، ويتسبب في انتشار الفقر في المجتمعات العربية بشقيه المادي والفكري، بما يجعل من تحقيق أي مشروع نهضة عربي أمراً مستحيلاً؛ ويشدد على أن العدالة الاجتماعية لا تعني إعادة توزيع الثروات، بل يجب أن تؤسَّس على التكافؤ العادل للفرص، ما يؤسس نظاماً اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً يُحقق العدالة الاجتماعية، ويجعل من النهضة العربية مشروعاً سهل التحقق.

وينادي زريق بـ"الوحدة العربية"، ويرى أنه يمكن تحقيقها عبر تطبيق المشروع النهضوي العربي، لا سيما أن تحقيق الوحدة العربية يجعل من الممكن مواجهة التحديات الخارجية التي يتعرض لها العالم العربي، وتعزز الهوية الثقافية والحضارية، وتؤسس لمنظومة مجتمعية تحترم الحريات العامة وحقوق الإنسان وتعزز قيمة الإنسان العربي. ويرى أن عدم تحقق الوحدة حتى الآن سببه "فشل تاريخي يجب دراسته دراسة نقدية وعقلية"، حتى يمكن مواجهة أسباب هذا الفشل، أو على الأقل تجنبها وتجاوزها، حسب قوله. 

وختاماً، يشدد زريق على ضرورة مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه مشروع النهضة العربي، حتى يمكن إتاحة الفرصة لتحقيق مشروع نهضوي عربي يمثل ثورة فكرية واجتماعية واقتصادية، ويرتكز على تحرير الإنسان العربي من القيود الفكرية والمجتمعية والتراثية، ويحقق العدالة الاجتماعية والوحدة العربية.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة