الدعوة والدولة:

الحسن بن الصباح وتأسيس الدولة النزارية

مركز حوار الثقافات

08-09-2025

رغم الأهمية التاريخية الهائلة للدولة الإسماعيلية النزارية، التي أسسها الحسن بن الصباح في قلعة آلموت أواخر القرن الخامس الهجري، فإن شخصية هذا الرجل ما تزال محاطة بكثير من الغموض، خاصة في بداياته. تشكل سيرة الحسن بن الصباح مثالاً نادراً على تحوّل الفرد من باحث في العقيدة إلى قائد لحركة "سياسية – دينية" واسعة التأثير، رسمت ملامح جديدة في خريطة العالم الإسلامي لقرون قادمة.

النشأة والطموح

وُلد الحسن بن الصباح في إيران، ويرجّح أن يكون مسقط رأسه مدينة "الري"، ما بين عامي 430 و440هـ (1038–1048م). رغم ذلك، فإن جذوره تعود إلى اليمن، وتحديداً إلى قبيلة حمير العربية، مما يجعل من شخصيته مثالاً مثيراً للتفاعل "العربي – الفارسي" في سياق التشيع السياسي والفكري.

بحسب المصادر التاريخية، فقد نشأ الحسن بن الصباح في عائلة شيعية إمامية اثني عشرية، ويبدو أن البيئة العقائدية الحاضنة في "الري"، حيث ازدهرت مدارس التشيع الاثني عشري، كان لها أثر بالغ في صقل وعيه المبكر.

تتفق أغلب الروايات على أن الحسن كان متفوقاً منذ صغره في تحصيله العلمي، وقد اتجه إلى دراسة العقائد والعلوم الدينية في حلقات كبار علماء الشيعة. بعد إتمام تعليمه الأولي، شدّ ابن الصباح الرحال إلى مدينة نيسابور، والتي كانت وقتها من أهم مراكز العلم والمعرفة في إقليم خراسان. في نيسابور، ارتبط اسم الحسن بن الصباح بحكاية شهيرة تجمعه بكل من الشاعر عمر الخيام والوزير نظام الملك الطوسي. بحسب تلك الحكاية فإن الرجال الثلاثة -ابن الصباح والخيام ونظام الملك- كانوا أصدقاء درَسوا معاً وتواعدوا على أن يعين أحدهم الآخر إن وصل إلى السلطة. 

بعيداً عن صحة هذه القصة، فإن تداولها على نطاق واسع في كتابات الأدباء والشعراء والمؤرخين يعكس موقع الحسن بن الصباح في المِخيال التاريخي الجمعي كشخصية طموحة وذات تأثير قوي.

وبحسب المصادر التاريخية، فإن الحسن لما أنهى دراسته الدينية التحق بديوان السلطان السلجوقي ملكشاه، حيث حاول أن ينافس الوزير نظام الملك ويقرب نفسه من دوائر القرار، لكنه فشل في ذلك وسرعان ما أُقصي من منصبه. هذا الفشل المؤقت، ربما، هو ما عمّق في داخله الرغبة في تغيير الواقع من خلال مشروع "فكري – سياسي" مستقل، لا يتبع للدولة المركزية ولا يرضى بدور الرجل الثاني.

التحول المذهبي 

رغم نشأته الاثني عشرية، لم يكن الحسن بن الصباح متعصباً لمذهبه الأول، بل كان شغوفاً بالنقاش العقائدي الحر، ويبدو أنه قد تأثر تدريجياً بالأفكار الإسماعيلية التي كانت تنتشر في إيران على يد دعاة فاطميين نشطين منذ القرن الثالث الهجري. أول احتكاك له بالمذهب الإسماعيلي حدث خلال نقاش طويل مع أحد دعاتهم، ثم توالت الحوارات والقراءات، حتى أدرك الحسن أن الفكر الإسماعيلي هو ما كان يبحث عنه منذ شبابه.

تذكر المصادر الإسماعيلية قصة التحول المذهبي لابن الصباح، فتذكر أنه مرض مرضاً شديداً ذات يوم، وخلال فترة نقاهته، ترسخت لديه القناعة بصحة المذهب الجديد، فعزم على الدخول فيه بعد الشفاء. وبالفعل، التقى الحسن بعدها بعدد من كبار الدعاة، من أبرزهم أبو نجم السراج والداعية مؤمن، وقدم البيعة رسمياً للمذهب. بعد ذلك، التقى الحسن بالداعية الكبير عبد الملك بن عطاش، الذي رأى في شخص الحسن مؤهلات الداعية المثالي، فعينه نائباً له في بلاد فارس.

عقب التحول مباشرة، بدأ الحسن نشاطه التبشيري والدعوي على نطاق واسع في المدن الإيرانية، وحقق نجاحات ملحوظة دفعت السلطة السلجوقية لملاحقته، خصوصاً الوزير نظام الملك الذي أمر بإلقاء القبض عليه. ولما اشتدت الملاحقة، أشار عليه عبد الملك بن عطاش بالتوجه إلى القاهرة، حيث مقر الخلافة الفاطمية، لتلقي التعليم العقائدي الأعلى، والحصول على الدعم السياسي اللازم لمشروعه المستقبلي.

الرحلة إلى مصر

سافر الحسن إلى مصر عام 469هـ (1076م)، في رحلة طويلة بدأت من أصفهان ومرّت بمدن كميافارقين ودمشق وبيروت، حتى وصل إلى القاهرة عام 471هـ (1078م). الهدف الأساسي من هذه الرحلة كان لقاء الخليفة المستنصر بالله، وطلب الاعتراف الرسمي به كداعية. لكن هذا المسعى اصطدم بعقبة كبيرة، وهي نفوذ الوزير بدر الجمالي، الحاكم الفعلي لمصر، والذي كان يتحفظ على كل من يحاول الاقتراب من الخليفة في تلك الفترة.

تنقسم الروايات حول ما إذا كان الحسن قد التقى فعلاً بالمستنصر. الإسماعيليون النزاريون يؤكدون أن اللقاء تم، وأن المستنصر عيّن الحسن داعيةً رسمياً وأشار إليه بولاية العهد لابنه نزار. أما بقية المصادر التاريخية، فتشكك في وقوع هذا اللقاء، وتعتبر أن هذه الرواية قد اختُلقت لاحقاً لإضفاء شرعية سياسية على دعوة الحسن في بلاد فارس.

وختاماً، لم ينجح الحسن في اختراق حصون السلطة في القاهرة، فاعتُقل بأمر من الوزير بدر الجمالي، ونُفي إلى دمياط، ثم رُحّل من مصر إلى المغرب، لكن السفينة التي كانت تقله اتجهت شرقاً بسبب الرياح، مما أتاح له العودة إلى بلاد الشام. هكذا انتهت تجربته المصرية، لكنه عاد منها محملاً بشرعية رسمية كداعية، ومزوداً بالمعارف السرية والعمق العقائدي الذي أهّله لاحقاً لتأسيس قاعدته العسكرية والسياسية في قلعة آلموت، التي صارت معقل الدولة النزارية الكبرى.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة