لعل الارتكاز المستمر على المطلق المفارق، يمثّل إحدى الركائز النظرية التي استندت إليها مختلف الأنساق الفكرية منذ البدايات الأولى للتفكير الإنساني؛ إذ شكّل هذا المطلق، بما ينطوي عليه من طابع متعالٍ على التجربة الإنسانية المباشرة، نقطة للتساؤل عن الوجود وتفسير نظام العالم. فالميل إلى الإحالة على ذات عليا تتسم بالقداسة، لم يكن مجرد تعويض نفسي أو استعارة رمزية؛ بل كان استجابة وجوديّة لضرورة مُلحة داخل الوعي الإنساني، لتفسير وجوده ضمن بنية كلية ذات معنى، بما يمنح الإنسان إحساساً بالهدوء والاطمئنان.
كان إدراك "الله" كمبدأ أعلى ووجود مفارق، نتيجة مزدوجة لدافعين متكاملين: دافع "موضوعي" يتصل بمحاولة تفسير انتظام الموجودات، والبحث عن علّة نهائية تفسّر الوجود؛ ودافع "ذاتي" يتصل بحاجة الإنسان إلى تأكيد هويته عبر الانتماء إلى أصل متعالٍ.
الإرادة الإنسانية
من هذا المنظور، توصّل الإنسان إلى الوعي بوجود "الله"، واستشعار حضوره في العالم وفي أعماق ذاته قبل ظهور الأديان، التي جاءت في لحظة لاحقة، فكرّست هذا الوعي الأولي بوجود ذات فردية، تحتاج إلى تقنين نسق أخلاقي ومعرفي يعكس طبيعة الخير في العالم.
غير أنّ هذا الاكتشاف لم يكن معناه تحقق الانسجام الكلّي مع العالم ومكوناته المعرفية؛ إذ واجه الإنسان قصوراً معرفياً يحول دون التماهي المطلق مع بنية الكون الشاسع والغامض. ومع تحولات الاجتماع البشري، وتعدد الدوافع السلوكية واختلاف أنماط السلطة والسياسة، تحوّلت الإحالة المستمرة على المطلق إلى آلية مزدوجة الوظيفة: فمن جهة، كانت حيلة دفاعية تُمكّن الإنسان من التكيف مع شروط الواقع؛ ومن جهة أخرى، كانت تعبيراً عن توقٍ روحي إلى عالم القداسة المفارق، حيث يجد الإنسان ذاته وقد تحررت من تناقضات الوجود الأرضي.
هذا النزوع إلى المتعالي لم يكن مجرد آلية هروب من المجهول، بل كان محاولة للبحث عن إرادة ما للإنسان، بما يتيح تجاوز إشكالات الذات والوجود في آنٍ. وهكذا غدا حضور "الله" في المخيال والوجدان الإنساني تجسيداً لرغبة عميقة في تضييق الهوة بين المحدود واللا محدود، وبين النسبي والمطلق؛ أي بين الشرط البشري والأفق الإلهي المتعالي، الذي يمنح هذا الشرط معناه وغايته النهائية.
ومنذ بدايات الوعي البشري تبلورت إشكالية الإرادة الإنسانية، كواحدة من أعقد المعضلات التي شغلت الفكر الديني والفلسفي على السواء. يتبدّى ذلك بجلاء في السردية التأسيسية التي تجلّت في واقعة "قتل قابيل لأخيه هابيل": هل كان الفعل الدموي الذي ارتكبه الأخ الآثم، مجرد تنفيذ قسري لمشيئة علوية مفروضة، بحيث يصبح قابيل أداة في يد القدر الإلهي، أم إنّه أقدم على جريمته بكامل إرادته الواعية المستقلة (؟).. وكيف نفهم قبول السماء لقربان هابيل، ورفض قربان قابيل، إلّا بوصفه اشتراكاً في لعبة المراهنة بين الأخوين المتنافسين، وهي لعبة تُفضي -بحكم نتيجتها- إلى إزهاق روح الابن الصالح، ودمغ الآخر باللعنة الأبدية (؟).
هنا، تتفجّر سلسلة من التساؤلات التي لا تنتهي: هل كانت الجريمة إذاً تدبيراً إلهياً.. أم كان قابيل فاعلاً حُراً، امتلك من الأسباب النفسية والاجتماعية ما يكفي لدفعه إلى الانتقام، بعيداً عن أي تدخل مباشر من السماء (؟).
وهنا، أيضاً، يتجلى مفهوم الإرادة الحرة، بوصف "حرية الإرادة"، في بُعدها الاصطلاحي الفلسفي، تلك القدرة الجوهرية التي يمتلكها الإنسان على توجيه أفعاله وتحديد مسارات تصرفاته، وفقاً لاختياراته الذاتية وقناعاته الداخلية، كملكة تأسيسية تمنحه إمكانية اتخاذ القرار المستقل، انطلاقاً من وعيه بذاته ورؤيته الخاصة للعالم، بما يسمح له بتحويل إرادته المجردة إلى فعل ملموس، بدافع من طاقة كامنة على ممارسة الاختيار بين الإمكانات المتاحة، وفي مقدمتها المفاضلة الوجودية الأعمق بين الخير والشر(1).
وفي بُعدها المفاهيمي، تبدو "حرية الإرادة" نقيضاً لكل أشكال الجبر والحتمية، كحقل دلالي مشحون بإمكانات الفعل الحر، بما يتيح للفرد القدرة على رسم قراراته وصياغة مساراته ضمن فضاء متعدد الإمكانيات، دون أن يخضع لإملاءات خارجية أو ضغوط قسرية. ومن هذا المنظور، فإنّ الحرية الإرادية تنفتح على معنى "تقرير المصير"؛ وبهذا المعنى، تتحول الإرادة الحرة إلى أساس وجودي ومعياري في آنٍ؛ إذ تمنح للفعل الإنساني مشروعيته الأخلاقية، وتؤسس لإمكانية التفكير في العدالة والمسؤولية داخل الفضاء الاجتماعي والسياسي(2).
مفهوم الحرية
ومن ثمّ ظهر في التاريخ الفلسفي والديني أكثر المفاهيم ثراءً وإشكالية، فقد ظهرت "الحرية" في سياق اكتشاف الإنسان لمفهوم "الله" الكلي والمطلق، لتُحدث نوعاً من الجدل، باعتبارها نفياً للقسر الخارجي وانعدام كل إكراه مفروض من خارج الذات (القدرة على اختيار الفعل عن روية، مع إمكانية العدول عنه أو اختيار ضده، بما يجعلها مرتبطة جوهرياً بإمكان التعدد والبدائل).
ويمكن ملاحظة الحضور المفاهيمي للحرية في السرديات التأسيسية؛ فآدم، حين ارتكب "الخطيئة الأولى"، مارس فعلاً حراً، وقابيل، حين أقدم على قتل أخيه، كان فاعلاً بإرادته. غير أنّ هذا الطرح يثير السؤال التالي: هل الحرية مرتبطة جوهرياً بالشر؛ وهل يقود الانفتاح الإرادي بالضرورة إلى الانحراف، كما ذهب القديس أوغسطينوس في اعتباره أنّ الحرية هي سبيل الإنسان نحو الخطيئة، أو كما تصوّرها جان بول سارتر كفعالية هدامة تتجه، بعد تدمير كل شيء، نحو تدمير ذاتها (؟)(3).
يمكن القول إنّ الإجابة لا تنحصر في هذا التصور التشاؤمي؛ إذ ليس من الحتمي أن تقترن الحرية بالفعل الشرير، بل إنّ إمكانية الخير نفسها لا تتحقق إلا في ضوء الحرية، حيث لا يُتصور فعل أخلاقي أصيل إلّا إذا كان نابعاً من اختيار حر. فالخير، شأنه شأن الشر، فعل إرادي مشروط بقدرة الفاعل على الاختيار والمبادأة.
ويميز زكريا إبراهيم بين مستويين رئيسين للحرية:
أولهما، حرية التنفيذ؛ وهي القدرة على الفعل أو الامتناع عنه دون خضوع لضغط خارجي، مما يجعلها حرية طبيعية تؤكد استقلال الإنسان وغياب كل قسر مادي أو سلطوي.
وثانيهما، حرية التصميم؛ وهي ملكة أعمق تتعلق بالاختيار ذاته، إذ تتحقق قدرة الذات على توجيه أفعالها بعيداً عن أي ضغط داخلي أو حتمية باطنة، سواء كانت نابعة من الانفعالات أو التصورات أو الإدراكات.
وعلى هذا الأساس، فإن الحرية السيكولوجية تمثل القدرة على المفاضلة بين بديلين متباينين في لحظة القرار، دون أن تكون الإرادة أسيرة لعاطفة أو صورة ذهنية محدِّدة(4).
ومن ثم، يظهر أنّ الحرية، في أبعادها الطبيعية والنفسية، ليست مجرد شرط خارجي لانتفاء الإكراه؛ ولكن بالأساس ممارسة فعلية لقدرة الذات على الانفتاح على إمكانات متعددة، تجعل الفعل الإنساني مجالاً للتأسيس الأخلاقي والمعرفي معاً.
وختاماً، يمكن القول إنّ الحرية في دلالتها الأبسط، ترتبط بالنشاط الإنساني في شموليته، فهي قديمة قِدم التاريخ الإنساني ذاته، ومرافقة للحظة التأسيس الأولى للوجود. وإذا ما أردنا الدقة في التعبير، وجب أن نُدرج ضمن أفق الحرية كل الأنساق الفكرية والسياسية والفلسفية والفنية التي عبّرت عبر العصور عن معنى الكينونة الإنسانية. وهكذا، تتجلى الحرية بوصفها ضرورة وجودية واستجابة لحاجة عقلية ملحّة، ورمزاً يميز مسيرة الإنسان، ويشكّل إحدى الوقائع المؤسسة لوجوده ورؤيته لذاته وللعالم منذ البدايات حتى الحاضر.
الهوامش
1 - إيجور كون، معجم علم الأخلاق، ترجمة: توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو، 1984، ص177.
2 - روبرت دال، الديمقراطية ونقادها، ترجمة: نمير مظفر، دار الفارس للنشر والتوزيع، 1995، ص517.
3 - زكريا إبراهيم، تأمّلات وجوديّة، دار العلم للملايين، بيروت، 1962، ص ص 206-208.
4 - زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر، القاهرة، 1957، ص19.