روح الحداثة:

مبادئ "ثلاثة" لتأسيس حداثة إسلامية

مركز حوار الثقافات

03-12-2024

في كتاب "روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية"، يسعى الفيلسوف والمفكر الإسلامي المغربي، طه عبد الرحمن، إلى تبصير الحداثيين بما هم فيه من تقليد؛ وذلك عن طريق التفريق بين روح الحداثة وواقعها، كما يسعى إلى أن يُخرج التراثيين بدورهم مما هم فيه من تقليد معوِّق، لفتح فضاء الاجتهاد لهم، فالتطبيق الإسلامي للحداثة، من وجهة نظر عبد الرحمن، يسمو بروح الحداثة بما لا يسمو بها التطبيق الغربي.

الإنسان والحداثة 

يقول طه عبد الرحمن إنه لا خلاف في أن الخصائص التي تُميّز روح الحداثة، يجدر طلبها في جملة المبادئ التي يُفترض أن الواقع الحداثي يحققها، أو قل يطبِّقها، ويبدو أن خصائص هذه الروح تقوم في مبادئ "ثلاثة" أساسية، هي: مبدأ الرشد، ومبدأ النقد، ومبدأ الشمول.

ويشرح عبد الرحمن أن مقتضى "مبدأ الرُّشد"، يعني أن الأصل في الحداثة الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد، والقصور هو اختيار التَّبَعية للغير، أما الرُّشد فينبني على رُكنين أساسيين: الركن الأول هو الاستقلال؛ إذ يستغني الإنسان الراشد عن كل وصاية في ما يحق له أن يفكر فيه، فتنطلق حركته، وتترسَّخ ذاتيته. والركن الثاني هو الإبداع؛ إذ يسعى الإنسان إلى أن يبدع أفكاره وأقواله وأفعاله على قيم جديدة يبدعها من عنده، أو على قيم سابقة يُعيد إبداعها.

والمبدأ الثاني، عند عبد الرحمن، فهو "مبدأ النقد"، الذي بمقتضاه أن الأصل في الحداثة هو الانتقال من حال الاعتقاد إلى حال الانتقاد، والانتقاد هو المطالبة بالدليل على الشيء، إذ يحصل التسليم به.

أما المبدأ الثالث من خصائص روح الحداثة، هو "مبدأ الشمول"؛ إذ يقتضي أن الأصل في الحداثة الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول، بما يعني التوسع والتعميم، فلا تنحصر أفعال الحداثة في مجالات بعينها، ولا تبقى حبيسة المجتمع الذي نشأت فيه.

وينتقد عبد الرحمن النتائج المترتبة على مبادئ روح الحداثة، فيوضح أن هذه المبادئ تؤدي إلى تعدد تطبيقات روح الحداثة، والتفاوت بين واقعها وروحها؛ إذ إن روح الحداثة ليست ملكاً لأمة بعينها، غربيةً كانت أو شرقيةً، وإنما هي ملك لكل أمة متحضرة.

الإسلام والحداثة

ويوضح عبد الرحمن وجود شروط عامة للتطبيق الإسلامي لروح الحداثة؛ فلا بد من اجتناب آفات التطبيق الغربي لروح الحداثة، ولا بد من اعتبار الحداثة تطبيقاً داخلياً، لا تطبيقاً خارجياً، فكل أمة هي بين خِيارين، إما أن تصنع حداثتها الداخلية، وإما لا حداثة لها، وأنه لا بد من اعتبار الحداثة تطبيقاً إبداعياً، لا تطبيقاً اتِّباعياً.

ويؤكد أنه ينبغي أن ننبِّه إلى حقيقة أساسية، وهي أن كل تطبيق لروح الحداثة، تصحبه اعتقادات وافتراضات خاصة مستمدة من مجاله التداوُلي، بحيث تختلف تطبيقات هذه الروح باختلاف هذه الاعتقادات والافتراضات. موضحاً أنه رغم إطلاق اسم "مسلَّمات التطبيق"، فإن بعض هذه المسلَّمات قد تكون فاسدة، فتتسبب في دخول بعض الآفات على التطبيق، وهذا بالذات هو وضع التطبيق الغربي على روح الحداثة؛ مُشيراً إلى أنه يجب أن نبيّن أن هذا التطبيق لا يصدق في المجال التداولي الإسلامي، حتى نبني التطبيق الإسلامي على غير هذه المسلَّمات.

ويشرح عبد الرحمن الشروط الخاصة بالتطبيق الإسلامي لمبادئ روح الحداثة، وأولها مبدأ "الرشد"؛ فيتوجب علينا الانتقال من الاستقلال المقلِّد للغرب، إلى الاستقلال المبدع دون وصاية الغرب، باستعماره وهيمنته على الشعوب الضعيفة، وأن هذا الاستقلال المبدع لا يقطع صلته بالتراث، وإنما يقطع صلته بالجزء الذي انقضى نفعه، ويعيد إبداع جزئه الصالح؛ لأن الحداثة الحقّة هي حداثة قيم، لا حداثة زمن.

آفات العولمة

ويقول المؤلف إن العولمة، رغم أنها فعل حضاري متواصل، فإنه يتجه إلى إقامة رابطة واحدة بين سكان المعمورة، عبر إخضاع التنمية لسلطان الاقتصاد، والعلم لسلطان التقنية، والاتصال لسلطان الشبكة؛ فكان أن وقعت العولمة في عدد من الآفات خلقية تختلف باختلاف هذه الوجوه. ويوضح أن هذه الآفات هي: 

أولاً، آفة الإخلال بمبدأ التزكية؛ أي تقديم المنفعة المادية على المصلحة المعنوية.

ثانياً، آفة الإخلال بمبدأ العمل؛ أي تقديم الإجراء الآلي على العمل المقصدي.

ثالثاً، آفة الإخلال بمبدأ التواصل؛ أي تقديم المعلومة البعيدة على المعرفة القريبة.

ويتابع بأن دفع هذه الآفات يحتاج إلى قيم أخلاقية من غير جنسها، ولا وجود لها إلا في الدين الإلهي، وأحق الأديان بهذه المهمة هو الدين الإسلامي؛ وهكذا تكون مسؤولية المسلمين في زمن الحداثة أعظم من أي وقت مضى، لأنهم يملكون الأسباب القادرة على التصدي لانحرافات العولمة.

القرآن والحداثة 

يقول الفيلسوف المغربي إننا نجد بين أيدينا قراءات للقرآن ينسبها أصحابها إلى الحداثة، لكنها ليست تطبيقاً مباشراً لروح الحداثة، وإنما تقليد لتطبيق سابق، وهو التطبيق الغربي المتمثل في واقع الحداثة؛ ومعلوم أن هذا التطبيق الأخير أراد له أهلُه أن يبقى قاطعاً صلته بأسباب الماضي وآثاره، لما انطبع في ذاكرتهم من أسباب التخلُّف التي عانوها في القرون الوسطى.

ويوضح أن هذه الحالة لا تنطبق على ذاكرة المسلمين؛ لأن هذه القرون كانت تشهد على تحضُّرهم، ولو أنهم انحدروا بعدها، وأن على المسلمين أن يجددوا تفسير القرآن، ويجددوا قراءته، سالكين طريق الإبداع الموصول الذي يميز التطبيق الإسلامي لروح الحداثة، لا طريق الإبداع المفصول الذي سلكته قراءات حداثية للآيات القرآنية.

ويؤكد عبد الرحمن أنه لا وجود لإبداع حقيقي ما لم يأخذ بأسباب تراثنا التفسيري والثقافي، فيكون الهدف النقدي هو تكريم الإنسان وليس نزع القُدسية، وتوسيع العقل وليس نزع الغيبية، وترسيخ الأخلاق وليس نزع الحكمية، حينها يتجلّى التجديد في رفع الكرامة الإنسانية إلى رتبة "التمثيل الإلهي"، محققاً مبدأ استخلاف الله لنا في أرضه.

ويقول إنه ينبغي لمجالات التطبيق الإسلامي المعتبرة أن يبلغ فيها تغلغل التوسع المعنوي والتعميم الوجودي أعلى درجة؛ موضحاً أنه لا مجال يحتمل أن يتجلّى فيه التوسع المعنوي مثل تجليه في الارتقاء بالمواطنة إلى رتبة المؤاخاة، التي هي مواطنة موصولة ومفتوحة، لا تسبب انفصال الذات عن الواقع وعن الآخر، والارتقاء بالتضامن إلى رتبة التراحم التي تكون فيها العلاقات بين الأحياء والأشياء جميعاً علاقات بين أقرباء، بحيث تكون الواجبات في ما بينهم، لا واجبات الأجانب، وإنما واجبات الأقارب.

وختاماً، فإن الأمة المسلمة، بحسب المؤلف، تحتاج إلى أن تتعامل مع المفاهيم المخترَعة التي شاع تداولها عند الأمم الأخرى، وأن تخرّجها على قواعد مجالها التداوُلي؛ وإن المجتمع المسلم، بموجب ضرورة اندماجه في الفضاء العالمي، له تطبيقه الخاص لروح الحداثة؛ إذ يسعى إلى أن يرتقي بالفعل الحداثي بما لا يرتقي به التطبيق الحداثي الغربي، محصّلاً بذلك نفس المشروعية التي يملكها الغرب، هذا إن لم تكن مشروعيته أكبر، باعتبار اضطلاعه بمهمة الارتقاء بالفعل الحداثي نفسه، دون انفصال عن التراث الأصلي؛ بل في إبداع موصول به، بما يجعل العقل ينفتح على الحياة الوجدانية والروحية، ومجال القيم الإنسانية، دون إخلال بالتوازن بين القديم الصالح والجديد النافع.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة