"إن الاحتفاء الفائق بالنص الديني، القرآني على وجه الخصوص، في فترة لاحقة على تدوينه، وإعلاء شكله وترتيبه وألفاظه، أغلق بنحو واعٍ ومُدبَّر مجال البحث العلمي حول ظروف وسياقات تكوين النص، وعزل النص بطريقة مبرمَجة ومسندة فكرياً وفقهياً".. هكذا يوطئ الكاتب اللبناني الدكتور وجيه قانصو لمؤلَّفه المعنوَن بـ"النص الديني في الإسلام.. من التفسير إلى التلقي"، الصادرة طبعته الأولى عام 2011، عن دار الفارابي.
ويهتم الكاتب بالتعرف إلى النص الديني/القرآني عبر ملاحقة مراحل صدور وتحولات هذا النص أيام النبي؛ أي منذ لحظة الوحي، وصور تلقي النبي لهذا الوحي، فضلاً عن المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي كانت حاضرة في مساره وفترات تلقيه وتبليغه.
التفسير والقراءة
لقد تجاهل علم التفسير التقليدي، بحسب الكاتب في مؤلَّفه، عملية الفهم والقراءة، ومال إلى التقليل من أهمية هذه العملية في تحصيل معنى النص، وغياب/تغييب عناصر مهمة من عناصر التفسير المعتمدة، ومنها دور المفسر أو القارئ في عملية الفهم، وكذا الأفق الثقافي والتاريخي لعملية التفسير.
ويلفت الكاتب إلى ما يسميه "التفسير الممدوح"، وفق منهج التفسير المتبع، الذي يتطلب تحييد الذات المفسِّرة ويتجاهلها ككينونة تنتمي إلى سياق تاريخي وأفق ثقافي خاصّين ومحملة بأسئلة وهواجس وتفسيرات ذاتية، حتى صار الأساس في "المفسِّر المستقيم" أن يتخلى عن ذاته، ويلبس الفهم العام المسيطر على الجماعة، التي يتقمص وعيها وينتمي إليها ويتقيّد بقوانينها، وينصاع إلى مؤسسة التفسير والاجتهاد داخلها.
ويؤكد الكاتب أن قراءة النص الديني وفهمه لا تكون إلا بالعودة إلى قصد النص زمن صدوره الأول، فلا يمكن سلخ هذا النص عن زمانه وإرغامه على أن يقول لنا ما نحب أن يقول، كما يحصل في الاستشهادات الأيديولوجية الراهنة للنص القرآني. ويضيف أن الفجوة الزمنية بين النص والقارئ تستدعي بناء عَلاقة بينهما، ولا يمكنها أن تلغي الفواصل الضرورية والاختلافات الأساسية بينهما، بل تحقق فاعلية قراءة وفهم تحفظ ظلال الكلمات الأولى، وتستحضر ظرف النص وتاريخيته، دون أن تسجنه فيه، أو تغلق دلالاته على ماضَويّته، بل تدخل معه في فعل استكشافي قائم على حساسية التقاط مرهفة لما يقول النص، ولما يخاطبنا به، ولما نُحسُّ أننا مخاطَبون به، حسب قوله.
ويفترض الكاتب أن الارتباط بين النص القرآني وبين حدث الوحي، الذي حصل في فترة تاريخية محددة، واعتبار القرآن ثمرة من ثمرات هذا الوحي، يفرض علينا الربط بين التعرف إلى طبيعة النص القرآني ولحظات تشكُّله وولادته الأولى من جهة، وبين فهم حدث الوحي نفسه والتعرف إلى الفواعل الحاضرة فيه من جهة أخرى.
لحظة الوحي
ويحاول الكاتب تلمس المسافة بين ما جرى فعلياً، وما يتردد على ألسنة الروايات التاريخية المختلفة في السير المختلفة، ليتحسس ما يُسمى خُطى الوحي، فيرسم صورة للنبي المنعزل خارج مكة في غار حراء، فيقول: "بعد طول انتظار من محمد، وميل داخلي فيه إلى العزلة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده، وبعد طول تحنث في جوار حراء، وعروض إشارات غامضة، لم يتيسر له في البداية التقاط كامل مدلولاتها، وبعد حدوث رؤى واضحة له في المنام (مثل فلقة الصبح)، وحصول حدس فيه بقرب حصول أمر غير معهود له... بعد كل هذا، ينزل الوحي على محمد... حدث ليس ككل الأحداث، وانكشاف لعوالم تعبر تخوم الأبعاد، وعبء كلمات ثقيلة ليست كالكلمات التي تنساب على أسماعنا بنعومة، واتصال بكائن علوي حار المسلمون في تحديد حقيقته وهويته، وحوار لا يندرج ضمن حوارات العقلاء العادية"، حسب المؤلف.
ويلفت الكاتب إلى أن حدث الوحي هذا قد شكَّل، رغم لا زمانية مكوناته وتعالي الأطراف المشاركة في تحقيقه، ظرفاً تاريخياً وشرطاً موضوعياً لتشكُّل نص الوحي، ليكون النص القرآني ثمرة هذا الوحي، وليهبه خصوصيته وتفرده عن باقي النصوص.
ومع النبي محمد وصل الوحي، بحسب النص القرآني، إلى ذروته في القرب والانكشاف، كما يقول الكاتب؛ إذ كان "مباشراً ودون وسيط"، وأُزيلت منه كل موانع الاتصال المباشر بين النبي وربه، كما في الآية التي تصف لحظة حدث الوحي: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ٭ فَكَانَ قَابَ قَوۡسَيۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ ٭ فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ﴾ [النجم: 8-10]؛ والضمير، بحسب الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، في كل من كلمة "دنا" و"تدلَّى" و"كان" يعود على النبي، والضمير في "أوحى" و"عبده" يعود إلى الله، فيكون معنى الآية: "ثم دنا محمد فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إلى محمد ما أوحى".
وفي عبارة "فكان قاب قوسين أو أدنى"، كناية عن القرب الشديد بين الله والنبي محمد، حتى لتكاد الفاصلة المكانية والحُجُب الوجودية تنتفيان بينهما، وتُزال الموانع التي تمنع الاتصال المباشر بين الله والنبي، ويكون الكلام الموحَى به إلى النبي هو كلام الله نفسه، بحسب المؤلف، الذي يستند إلى تفاسير عدة للنص القرآني، لكنه يشير إلى ما أسماه "الحذر اللاهوتي" الذي هيمن لاحقاً على المزاج الإسلامي، الذي حال دون التمعن في دلالة بعض الآيات التي لا تنسجم مع مبدأ التنزيه التقليدي لله، ولا تتوافق مع توكيد الفصل القاطع بين البشري والإلهي، الأمر الذي ضغط على المفسرين، بحسب المؤلف، بالميل إلى منع فكرة الوحي المباشر من الله إلى محمد، وضرورة أن يكون ذلك قد جرى بالواسطة، جبريل.
النزول التدريجي
وفي مسألة أخرى من مسائل فهم النص القرآني وقراءته بصورة مغايرة للتراث الثابت، الذي ينزه ويقدس أكثر مما يشرّح ويفكر، يقول الكاتب إن التدرج في نزول القرآن الكريم في فترة امتدت إلى ثلاث وعشرين سنة، أثار ارتباكات في فهم المراد من بعض الآيات والأحاديث الدالة على أن القرآن نزل دفعة واحدة إلى السماء الدنيا وفي ليلة واحدة، كما في الآية: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ﴾ [القدر: 1]؛ والآية: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍۚ...﴾ [الدخان: 3].
وقد قيل في نزول الكتاب في ليلة مباركة إنه "افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر من شهر رمضان"؛ إذ إن أول ما نزل من آي القرآن من سورة العَلَق أو الحمد نزل في ليلة القدر، وهو قول مبني على استشعار المنافاة بين نزول الكتاب كله في ليلة واحدة ونزوله التدريجي.
ويذكر المؤلف أن الطباطبائي يرجّح أن يكون القرآن قد نزل مرتين، مرة مجموعاً وجملة واحدة في ليلة واحدة من ليالي رمضان، ومرة تدريجياً ونجوماً في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، وهذا تابع لطبيعة القضاء الإلهي الذي يمر بمرحلتين، مرحلة الإجمال والإبهام ومرحلة التفصيل، فيكون نزوله الأول مُحكماً لا تتميز بعض أجزائه من بعض، فيما يكون نزوله الثاني مفصَّلاً، وهو هذا القرآن الذي بين أيدينا المؤلَّف من السور والآيات التي لا تقبل النزول دفعة واحدة، حسب استشهاد المؤلف بقول الطباطبائي.
وختاماً، يؤكد الكاتب ضرورة تحرير النص الديني، وأن هذه العملية لا تجري بسلخ النص عن ماضيه واغترابه عنه، لا سيما أن الماضي سمة ذاتية لنشأة النص الديني وتكونه وتشكله الوجودي والتوثيقي؛ بل يكون تحريره بتتبع حركة انتقاله بين الأجيال عبر سيرورات التلقي المختلفة التي واكبته، والتموج مع تموجاته الأولى، والتفيؤ في ظلال المعاني التي ألقاها في الأزمنة المتعاقبة.
وهو ما يعني، بحسب وجيه قانصو، أن راهنية النص أو تحرره ليست في القطيعة مع تراكمات المعنى التي التصقت به من الماضي، بل بالوقوف عليها باعتبارها خبرات سابقة للعبور إلى خبرة جديدة تحوي معاني ونسقاً دلالياً مختلفَين، أي إن راهنية النص لا تكون بالتغاضي عن ماضيه، بل بوضع حركة معانيه وسيرورات تلقيه داخل سياق تاريخي تتواصل جميع أجزائه وتتوالد من بعضها.