الفكر الإسلامي:

دعوة لإعادة النظر في المفاهيم التقليدية 

مركز حوار الثقافات

15-01-2025

يُعتبر كتاب "الفكر الإسلامي.. قراءة علمية" للباحث والمفكر الجزائري محمد أركون، من الكتب الرائدة التي تعيد النظر في دراسة الفكر الإسلامي من منظور علمي نقدي حديث. في هذا الكتاب، الذي صدر عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، عام 1996، يتناول أركون قضايا متعددة تتعلق بالإسلام بوصفه ظاهرة دينية وثقافية وسياسية، ويسعى إلى تطبيق مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية على دراسة الإسلام لفهمه، بعيداً عن التفسيرات التقليدية التي هيمنت على الفكر الإسلامي لقرون.

ينطلق أركون من النقد العميق للمقاربات التقليدية، التي تتناول الإسلام باعتباره موضوعاً مقدساً لا يمكن إخضاعه للبحث النقدي. ويعترض على هذا الفصل بين المقدس والمعرفي، ويقدم منهجية قائمة على النقد التاريخي والتحليل الأنثروبولوجي؛ حيث يهدف من خلالها إلى تحرير الفكر الإسلامي من الجمود الفكري وإعادة النظر في تاريخه عبر رؤية علمية.

الإسلام في التاريخ

ضمن أهم الأفكار التي تناولها أركون في هذا الكتاب، تأتي أطروحة "الإسلام في التاريخ"؛ حيث يرى أركون أن الإسلام ليس مجرد دين نشأ في القرن السابع الميلادي واستمر حتى يومنا هذا، بل هو ظاهرة تاريخية تتشابك مع السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلفة عبر الزمن. ويؤكد أركون أن المسلمين لم يعودوا قادرين على استيعاب وفهم كافة أبعاد الإسلام التاريخية، بسبب الطابع التبسيطي الذي قدمه الفقهاء والمفسرون التقليديون. ومن هنا، تأتي أهمية قراءة الإسلام في التاريخ ضمن سياقاته الزمنية المختلفة.

وفقاً لأركون، يجب أن نعيد النظر في فهم الإسلام من خلال مجموعة من القضايا التاريخية الأساسية، مثل العلاقات بين الإسلام والأنظمة السياسية المختلفة، وكيف تطور الخطاب الديني في ظل تأثيرات الثقافات والمجتمعات التي احتك بها المسلمون. ويوضح أركون أن القراءة التقليدية للإسلام تعاني من انغلاق معرفي، بسبب سيطرة الفقهاء على إنتاج المعرفة الدينية. ويدعو إلى تبني منهجيات علم التاريخ لفهم العمليات التي أثرت على الإسلام عبر القرون.

المنهجية العلمية

تأتي أطروحة "تطبيق علوم الإنسان والمجتمع على دراسة الإسلام" كأحد أهم إسهامات الكتاب؛ حيث يقدم أركون منظوراً جديداً في دراسة الإسلام يعتمد على مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، واللسانيات، والتاريخ النقدي. إذ يرى أركون أن الإسلام كدين وكثقافة يجب دراسته بموضوعية، دون التأثر بالانحيازات الدينية أو الثقافية، ويعتبر أن العلوم الإنسانية تقدم أدوات تحليلية قوية لفهم الدين وتفاعلاته مع المجتمعات المختلفة.

هنا، يعتمد أركون على مفاهيم مثل "الأنثروبولوجيا الدينية"، لدراسة الأبعاد الرمزية والطقوسية في الإسلام، وكيف تتفاعل هذه الأبعاد مع النظم الاجتماعية والسياسية. ويعتمد أيضاً على علم الاجتماع لفهم كيف أن الإسلام، كدين، يتأثر ويتغير مع تغير البنى الاجتماعية. 

أحد الأبعاد المهمة التي يناقشها أركون، في هذا الإطار، هو "مفهوم العقل الإسلامي"؛ وهو مفهوم يشير إلى الأساليب المعرفية والتفسيرية التي يعتمدها الفكر الإسلامي التقليدي، في فهم النصوص الدينية وتطبيقها على الواقع. ومن ثم، يعتبر أركون أن العقل الإسلامي يحتاج إلى إعادة تقييم نقدية شاملة باستخدام أدوات البحث العلمي.

الروابط السياسية

ثم ينتقل أركون إلى مناقشة "الروابط بين الإسلام والسياسة"؛ حيث يركز على العلاقة المتشابكة بين الدين والسياسة في التاريخ الإسلامي؛ ويوضح أن هذه العلاقة ليست علاقة بسيطة أو خطية، بل هي علاقة ديناميكية تأثرت بتغيرات الظروف التاريخية والسياسية. 

ينظر أركون إلى الإسلام على أنه كان دائماً في حالة تفاعل مع السلطة السياسية، سواء كانت هذه السلطة تُمثل الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، أو الخلافات التي نشأت بعد وفاة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

ويحلل أركون كيف استُخدم الإسلام كأداة سياسية عبر التاريخ؛ حيث سعى الحكام والفقهاء إلى توظيف الدين لتحقيق مصالح سياسية؛ ومن ثم، يؤكد أن هذا التداخل بين الدين والسياسة أدى إلى تشويه مفهوم "الدولة الإسلامية"؛ حيث أصبح الدين أداة للشرعية السياسية. 

ويشرح كيف أن الفكر الإسلامي التقليدي حاول بناء نموذج مثالي للدولة الإسلامية، بناءً على نصوص دينية، دون مراعاة الظروف التاريخية المتغيرة. ومن هنا، تأتي دعوة أركون إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الإسلام والسياسة بعيداً عن النموذج المثالي القديم.

يشير أركون إلى أن فكرة الدولة الإسلامية ليست شيئاً ثابتاً أو مقدساً، بل هي فكرة تطورت عبر الزمن وتحولت بتأثيرات مختلفة. ويدعو إلى دراسة هذه التحولات التاريخية، لفهم كيف يمكن للإسلام أن يتكيف مع السياقات السياسية الحديثة، دون أن يفقد جوهره الروحي والأخلاقي.

المفاهيم التقليدية

يمثل كتاب "الفكر الإسلامي.. قراءة علمية"، دعوة واضحة لإعادة النظر في المفاهيم التقليدية التي سيطرت على الفكر الإسلامي؛ حيث يشير أركون إلى أن الفكر الإسلامي التقليدي يعاني من نقص في القدرة على التفاعل مع التحديات المعاصرة، سواء على المستوى العلمي أو الاجتماعي أو السياسي. ويرى أن الحل يكمن في نقد هذا الفكر وإخضاعه لمناهج البحث العلمي الحديث.

ويشدد على أهمية فتح باب الاجتهاد من جديد، ليس بالمعنى التقليدي للاجتهاد الفقهي، ولكن بالمعنى الأوسع للاجتهاد المعرفي الذي يشمل العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ ويدعو إلى نقد الفكر "السلفي" الذي يسعى إلى تجميد التاريخ الإسلامي في فترة زمنية معينة، ويقدم نموذجاً قديماً لا يتناسب مع متطلبات العصر الحديث؛ وهو ما يعني، بحسب أركون، أن الفكر الإسلامي بحاجة إلى تحديث جذري يعتمد على أسس علمية حديثة.

بل إن أركون يتناول في كتابه أيضاً إشكالية تفسير النصوص الدينية، وخاصة النصوص القرآنية، وكيف تم تفسيرها عبر القرون؛ إذ يعتبر أن النصوص الدينية ليست ثابتة أو جامدة، بل هي مفتوحة للتأويل والتفسير وفقاً للظروف التاريخية والاجتماعية. ينتقد أركون ما يسميه "سلطة النص" التي فرضها الفقهاء على المسلمين؛ حيث تم تحويل النصوص الدينية إلى مصادر للسلطة الدينية والسياسية؛ وبالتالي، يدعو إلى إعادة قراءة هذه النصوص بعيداً عن التفسيرات التقليدية الجامدة، وباستخدام مناهج التحليل الأدبي والنقدي.

ثم يحلل أركون دور اللغة في تكوين الفكر الإسلامي، ويطرح إشكالية سلطة اللغة العربية "الكلاسيكية" على الفكر الإسلامي. ويرى أن هذه السلطة اللغوية تساهم في إغلاق الأفق الفكري، وتكريس التفسيرات القديمة للنصوص الدينية. لذلك يدعو إلى دراسة العلاقة بين اللغة والسلطة وتحرير الفكر من الجمود اللغوي.

إشكالية التجديد

يتناول أركون ما يسميه "العقل الإسلامي"، أي الطريقة التي يفكر بها المسلمون ويحللون بها واقعهم. ويركز هنا على إشكالية عدم قدرة الفكر الإسلامي التقليدي على التجديد والاستجابة لمتطلبات العصر، ويدعو إلى مراجعة جذرية لأساليب التفكير؛ حيث يرى أن هناك حاجة لإعادة بناء العقل الإسلامي من جديد بعيداً عن القيود المعرفية التقليدية.

ويعتمد أركون في ذلك على تحدي الحداثة للتراث الإسلامي؛ إذ يرى أن الفكر الإسلامي بحاجة إلى الانفتاح على المناهج العلمية الحديثة التي تطورت في الغرب، خاصة في مجالات الفلسفة والتاريخ والاجتماع. ويعتقد أن هذا الانفتاح ضروري لمواجهة التحديات المعاصرة، خاصة تلك المتعلقة بالعولمة والعلمانية والديمقراطية.

وكما يبدو، فإن أركون يحاول، من خلال هذا الكتاب، الدعوة إلى "أنسنة" الفكر الإسلامي، أي التوفيق بين القيم الإنسانية العالمية والفكر الإسلامي؛ مؤكداً ضرورة الحوار بين الحضارات المختلفة للوصول إلى فهم أعمق للإسلام من منظور عالمي.

وختاماً، يُعد كتاب "الفكر الإسلامي.. قراءة علمية"، محاولة جادة من أركون لإعادة صياغة الفكر الإسلامي في ضوء المعرفة العلمية الحديثة. يتسم الكتاب بالجرأة في طرح القضايا الحساسة التي تتعلق بالإسلام والتاريخ والسياسة، ويعتبر مرجعاً هاماً لكل من يسعى إلى دراسة الفكر الإسلامي من منظور نقدي. بل إن هذا الكتاب يُعتبر علامة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي؛ حيث يسعى إلى تقديم قراءة علمية ونقدية للإسلام وفهمه في سياق تطوراته التاريخية والسياسية.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

قراءات عامة

أصول جديدة: لماذا ينبغي إعادة التفكير في فقه المرأة؟

01-09-2024

ارسل بواسطة