كتاب "جدلية الغيب والإنسان والطبيعة.. العالمية الإسلامية الثانية"، للمفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد، رحمه الله، الصادر عن دار الهادي في بيروت، في عام 2004، هو الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى في عام 1979؛ بما يؤشر إلى أن حاج حمد يأتي ضمن أوائل مؤسسي التيار التجديدي في الفكر الإسلامي، في النصف الثاني من القرن العشرين الماضي.
والكتاب هو باكورة الأعمال الفكرية التي قدمها حاج حمد؛ ويتناول العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة والغيب في إطار الفكر الإسلامي، مع التركيز على مقاربة جديدة لما يسميه "العالمية الإسلامية الثانية"، وهي المرحلة التي يعتقد أنها قادمة في إطار التطور التاريخي للفكر والحضارة الإسلامية.
والكتاب أيضاً يعكس رؤية حاج حمد حول أهمية إعادة تفسير مفهوم العالمية الإسلامية، في ضوء التحديات الراهنة التي يواجهها المسلمون؛ إذ يرى أن هذه التحديات ناتجة عن الانفصال بين الإنسان والبيئة الطبيعية والغيب، وهو ما يسعى الكتاب لتفكيكه وتحليله.
قضايا رئيسية
ضمن أهم القضايا التي يطرحها حاج حمد في كتابه:
- مفهوم العالمية الإسلامية الثانية:
يتناول حمد مفهوم "العالمية الإسلامية الثانية" كمشروع حضاري جديد يهدف إلى إعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والطبيعة والغيب. في نظره، شهدت "العالمية الإسلامية الأولى" ازدهاراً كبيراً خلال القرون الأولى للإسلام، لكنها انتهت بسبب الانحراف عن المفاهيم الإسلامية الأساسية في السياسة والمجتمع. ويدعو حمد إلى استعادة هذا الدور الحضاري من خلال "العالمية الثانية"، التي تمثل عودة إلى المبادئ الأساسية للإسلام وتوظيفها في سياق عصري.
- جدلية الغيب والطبيعة والإنسان:
أهم الأفكار المحورية في الكتاب هي الجدلية الثلاثية بين "الغيب والإنسان والطبيعة"؛ حيث يعتقد حاج حمد أن الفكر الإسلامي التقليدي أهمل العلاقة بين هذه الأطراف الثلاثة، مما أدى إلى خلل في المنظومة الفكرية للمسلمين. ويُحلل حمد كيف يجب أن يتكامل الإنسان مع الطبيعة، مع الاعتراف بالدور المركزي للغيب (الله) في هذه العلاقة. وهذا يتطلب إعادة فهم التوازن بين العلم والدين والبيئة، بما يضمن تحقيق التناغم بين الإنسان ومحيطه.
من خلال هذا المنظور، يعتقد الكاتب أن هناك تفاعلاً مستمراً بين ما هو غيبي وما هو مادي، وأن هذا التفاعل هو الذي يحدد مسار الحياة الإنسانية.
فمن جانب، هناك الغيب؛ وهو ما يمثل الجانب الروحي أو الديني، الذي يحرك الحياة من منظور غير مرئي، لكنه أساسي في توجيه مسارات الطبيعة والإنسان. حاج حمد، هنا، يقدم رؤية تأملية حول كيفية تداخل الغيب في تفاصيل الوجود المادي، مشيراً إلى أن الغيب ليس خارجاً عن إطار الحياة اليومية، بل يتداخل معها بشكل دائم.
من جانب آخر، هناك الإنسان؛ وهو العنصر الفاعل في هذه الجدلية؛ إذ يرى الكاتب أن الإنسان ليس مجرد مخلوق في الطبيعة، بل هو كائن يتمتع بحرية الإرادة والقدرة على الاختيار والتأمل في الغيب. ويسعى حاج حمد إلى التأكيد على أن الإنسان يمكنه فهم وتجاوز حدوده المادية، عن طريق استيعاب المفاهيم الغيبية، مما يوسع آفاقه العقلية والروحية.
من جانب أخير، هناك الطبيعة؛ وهي الإطار المادي الذي يتفاعل فيه الإنسان والغيب. حاج حمد ينظر إلى الطبيعة على أنها ليست مجرد مادة مادية، بل هي كيان حي يتأثر بالغيب ويتفاعل معه. ويطرح الكاتب أن الفهم العميق للطبيعة يتطلب فهماً متكاملاً، يجمع بين الجوانب المادية والروحية. ويعتبر حاج حمد أن العلاقة بين الإنسان والطبيعة ليست مجرد علاقة مادية أو استغلالية، بل هي علاقة روحية ومعرفية؛ فالطبيعة جزء من النظام الكوني الذي يجب أن يفهمه الإنسان ويعيش فيه بتوازن.
- نقد شامل للحضارة الغربية:
يقدم الكتاب نقداً شاملاً للحضارة الغربية، مشيراً إلى أن الانفصال بين الإنسان والطبيعة والغيب، في الفكر الغربي، أدى إلى أزمات بيئية واجتماعية وأخلاقية. إذ يعتبر حمد أن الحضارة الغربية اعتمدت على المادية والعقلانية، مما أدى إلى نسيان البعد الروحي في الحياة. وبالتالي، يدعو إلى تقديم بديل إسلامي يقوم على رؤية متكاملة للوجود، تجمع بين العلم والروحانية والطبيعة.
تحديات الإنسان
يرى حاج حمد أن الإنسان في العصر الحديث يعيش في حالة انفصال عن جذوره الروحية، مما أدى إلى العديد من الأزمات النفسية والوجودية؛ ويعتبر الكاتب أن الإنسان بحاجة إلى استعادة التوازن بين الجوانب الروحية والمادية في حياته، وذلك من خلال استيعاب معاني الغيب والتفاعل معها.
- الفلسفة الغيبية والوجود الإنساني:
يركز حاج حمد في هذا الكتاب على الفلسفة الغيبية ودورها في تشكيل الوجود الإنساني. ويعتبر الكاتب أن الغيب ليس مجرد مسألة إيمانية بحتة، بل هو عنصر فلسفي يمكن من خلاله تفسير العديد من جوانب الحياة والوجود؛ فالغيب يقدم للإنسان الإطار الأخلاقي والمعرفي الذي يمكن من خلاله توجيه حياته وفهم معناه الأعمق.
ومن ثم، ينتقد حاج حمد النزعات الفلسفية المادية التي تسيطر على الفكر الحديث؛ وفي المقابل، يدعو إلى فلسفة تقوم على التكامل بين الغيب والعقل، حيث يتمكن الإنسان من التفاعل مع الكون بروحانية وتفكر.
- مسألة الجدلية بين الغيب والعقل:
من بين الأفكار المركزية في الكتاب، يقدم حاج حمد تصوره للجدلية بين الغيب والعقل؛ فهو يرى أن العقل وحده لا يمكنه إدراك جميع جوانب الوجود، بل يحتاج إلى توجيه من الغيب. فالعقل، بحسب حاج حمد، هو أداة لفهم بعض جوانب الحياة، لكنه لا يمكنه الوصول إلى المعرفة الكلية دون الاستعانة بالغيب. ويشير حاج حمد إلى أن الإنسان في عصرنا الحديث أصبح يعتمد بشكل مفرط على العقل والعلم، مما أدى إلى إهمال البعد الروحي في حياته.
الفكر الإسلامي
يتناول حاج حمد أزمة الفكر الإسلامي؛ ومن ثم، ينتقل إلى كيفية تجديد هذا الفكر.
- أزمة الفكر الإسلامي المعاصر:
ينتقد حاج حمد الفكر الإسلامي المعاصر؛ الذي هو، بحسب رأيه، يعيش حالة من التبعية للحضارة الغربية، سواء من خلال التقليد الأعمى أو من خلال الردة إلى الأصولية المفرطة. ويرى أن الحل يكمن في تقديم مشروع فكري جديد يتجاوز هذه الثنائية، من خلال العودة إلى أصول الإسلام ولكن بروح تجديدية. ويركز الكتاب على الحاجة إلى بناء فهم جديد للدين يتماشى مع التحديات الحالية، ويجمع بين الأصالة والتحديث.
- ضرورة تجديد الفكر الإسلامي:
يشدد حاج حمد على ضرورة التجديد في الفكر الإسلامي ليواكب المتغيرات العالمية، مع التركيز على القضايا التي تواجه المسلمين في العصر الحديث، مثل العولمة والاستعمار الجديد والتحديات البيئية. ويدعو إلى تجاوز الفهم السطحي للتاريخ الإسلامي، والتركيز على القيم الإسلامية الجوهرية التي يمكن أن تقدم حلولاً للأزمات الراهنة.
وهنا، يؤكد حمد أن التجديد يجب أن يتجاوز "خصوصية الوعي المحلي... بل يجب أن يأتي البديل عالمي الإطار والمحتوى، مستوعباً بالوعي المقومات العالمية المعاصرة"، حسب قوله؛ مُستشهداً بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحۡيِۦ وَيُمِيتُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلۡأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَٰتِهِۦ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158].
وختاماً، يمثل كتاب "جدلية الغيب والإنسان والطبيعة.. العالمية الإسلامية الثانية"، محاولة جادة لإعادة التفكير في مستقبل الأمة الإسلامية من منظور شامل يجمع بين الروحانية والعقلانية والطبيعة؛ خاصة في اعتماده بشكل واضح على إسقاط المنهج "المادي الجدلي"، على معظم الأطروحات الواردة في الكتاب؛ رغم ذلك، فإنه يظل إسهاماً فكرياً مهماً في السعي نحو تجديد الفكر الإسلامي، وتقديم بدائل حضارية في ظل الأزمات التي يعيشها العالم اليوم.