العقل والنقل:

الاختلاف بين الرؤى التراثية والحداثية

مركز حوار الثقافات

12-12-2024

رغم مركزية الخلاف حول أولوية إعمال العقل أم النقل، في تاريخ الفكر الديني، منذ القرون الأولى في التاريخ الإسلامي، فإنها قضية جدلية متجددة، ولكنها تكتسب أهمية خلال الفترة الحالية؛ لعلاقتها بتجديد الخطاب الديني، خاصة مع دعوات إعمال العقل في مواجهة الرؤى التراثية السائدة منذ قرون.

وتصدرت هذه القضية خطاب بعض المحسوبين على ما يُعرف بـ"التيار التجديدي" في الفكر الديني، مع إعادة الاستشهاد بأطروحات ومشروعات فكرية خاصة، لعدد من المفكرين والباحثين العرب، الذين تصدوا إلى قضية تجديد الفكر العربي بشكل عام، والفكر الديني بشكل خاص، خلال القرن العشرين.

وفي حين أن هذه المشروعات الخاصة، على اختلاف المناهج المستخدمة والتوجهات الحاكمة، استقرت جميعها على أهمية ترجيح مسألة إعمال العقل، ظل التيار التراثي متمسكاً بأولوية النقل، خاصة في المسائل التي تتعلق بالعقيدة.

مأزق تراثي

يُعد الخلاف حول أولوية إعمال العقل على النقل ضارباً في التاريخ الإسلامي؛ إذ إنه يتجاوز التأثيرات الحداثية في الفكر الديني الإسلامي. ويمكن الإشارة إلى جذور الخلاف في التراث الإسلامي.. كالتالي:

1 - المعتزلة وإعلاء سلطة العقل: تشير بعض الكتابات إلى أن المعتزلة -وهي إحدى الفرق الكلامية التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، وذلك في مطلع القرن الثاني الهجري- تأسست أفكارها على قاعدة رئيسية وهي "اعتماد العقل في تفسير العقيدة الإسلامية"، وتقديمه على النقل، الذي كان شائعاً في الفكر الديني الإسلامي منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.

ويرى المنتسبون إلى هذه المدرسة الكلامية، أن بعض الاتجاهات عظمت من النقل على حساب إعمال العقل؛ وهنا، فإن منهج المعتزلة يعتمد في أحد جوانبه على ضرورة "تأسيس الدين على العقل"، في محاولة لحسم الجدل حول إشكاليات النقل والعقل في مسائل العقيدة الإسلامية، وفقاً للباحث نبيل علي صالح، في مقال بعنوان: "المعتزلة والعقل".

ويَعتبر "صالح" أن المعتزلة "جعلوا العقل حَكَماً ومرجعاً في أمور الدين والعقيدة"، في مواجهة الاتجاه الذي "يؤسس سلطة الدين على النص والنقل".

وواجه فكر المعتزلة معارضة شديدة منذ القرن الثاني الهجري، تأسيساً على قاعدة أنه لا مجال لإعمال العقل في قضايا العقيدة، التي جاءت بنصوص "شرعية" واضحة في القرآن والسنة النبوية.

2 - تأصيلات لقواعد الاستدلال في العقيدة: في مقابل منهج المعتزلة في أولوية العقل على النقل في الدين، برزت بعض التأصيلات الشرعية داخل ما يُعرف بـ"أهل السنة والجماعة"، لمواجهة نزعة المعتزلة، من خلال وضع أصول "قواعد الاستدلال في العقيدة".

واعتمدت قواعد الاستدلال هذه على بعض القواعد، منها: أولاً، اقتصار مصدر التلقي على الوحي كتاباً وسُنةً، والاكتفاء بهما دون غيرهما، مع وجوب تقديم الشرع على العقل عند توُّهم التعارض؛ وثانياً، عدم الخوض في علم الكلام والفلسفة، والاقتصار في بيان وفهم العقيدة على ما في الكتاب والسنة.

أما ثالثاً، فالتسليم لما جاء به الوحي، مع إعطاء العقل دوره الحقيقي، بعدم الخوض في الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل في معرفتها؛ ورابعاً، عدم تقديم مقالات مبتدعة، ومقدمات عقلية، وجعلها حاكمة على النص، وفقاً لمقال للكاتب أبو مريم محمد الجريتلي، بعنوان: "منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال على مسائل العقيدة".

3 - تمسك التيار التراثي بأولوية النقل: تبنى التيار التراثي في التاريخ المعاصر المقولات التأسيسية في الكتب التراثية، وآراء أئمة مذهب "أهل السنة والجماعة"، فيما يتصل بأولوية النقل على العقل، استناداً إلى رأي عدد من الأئمة، منهم الإمام مالك: "والتسليم للسنن، لا تُعارَض برأي ولا تدافَع بقياس"؛ ويقول الإمام الشافعي: "يسقط كل شيء خالف أمر النبي ولا يقوم معه رأي ولا قياس، فإن الله عز وجل قطع العذر بقوله عليه الصلاة والسلام"، وفقاً لكتاب بعنوان: "منهج السلف في الدفاع عن العقيدة"، للكاتب عبد المجيد بن محمد الوعلان.

وأسس ابن تيمية مرحلة فارقة لتأسيس أولوية النقل على إعمال العقل، من خلال كتابه المعنون بـ"درء تعارض العقل والنقل"، لمناقشة فرضية رئيسية تتعلق بما أسماه "العقل الفطري"، وهو ما لا يتعارض مع النقل الصحيح؛ إذ يرى أن حدود إعمال العقل تتوقف فقط على حدود إدراك الله، والإيمان، دون إعمال العقل في فهم الدين، خاصة مع وجود نصوص شرعية في القرآن، ولاحقاً في السنة النبوية، وهو ما يبرز في كتب الأحاديث، وفقاً لدراسة "معضلة قانون العقل والنقل عند ابن تيمية: العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح"، للباحث زادان المرزوقي.

رؤى حداثية 

مقابل الرؤى التراثية في تاريخ الفكر الديني الإسلامي على مدار قرون، فإن ثمة بعض الأطروحات التي تعارض ترجيح النقل على إعمال العقل.. وأبرزها:

1 - التيار القرآني و"السنيون والعقليون": تميل بعض الآراء داخل "التيار القرآني" إلى اتخاذ موقف من الخلاف بين "العقليون والسنيون"، بشأن أولوية العقل أم النقل؛ إذ وجه انتقادات للطرفين، إذ أقدم "السنيون" على توسيع مفهوم "النقل"، ليشمل الآراء الشخصية لبعض الأئمة وعلماء الدين، لتأويلات النصوص الشرعية في القرآن الكريم، أو حتى تلك الواردة في كتب الأحاديث –رغم اعتراض هذا التيار عليها- لتصبح نصوصاً مقدسة، وباتت متداولة حتى الوقت الراهن.

كما وجهوا انتقادات لـ"العقليون" في هذا السياق؛ لأنهم: "كانوا يتدخلون بآرائهم المسبقة على القرآن يؤولون آياته حسب أهوائهم، ويتجاهلون ما يتعارض مع هواهم ويسمون هذا عقلاً".

2 - أزمة منهجية بين العقل والنقل: يفرق الباحث القرآني، سامر إسلامبولي، في كتابه: "تحرير العقل من النقل"، بين العقل والنقل؛ إذ إن الأول دليل، وليس مصدراً، على عكس النقل الذي يُعتبر مصدراً، مع التأكيد أن إثبات الحاكمية لله لا تنفي حاكمية الإنسان، على أساس أن: "حاكمية الله متعلقة بالثوابت، وحاكمية الإنسان متعلقة بالمتغيرات".

ويؤسس إسلامبولي رأيه في ضرورة تحرير العقل من النقل، على أن العقل كان موجوداً قبل النقل، كما أن النقل هو نتاج لتفاعل العقل مع الواقع، مما يؤكد هيمنة العقل وسيادته على النقل، في المقابل يرى أن "الإنسان الذي يعطي السيادة للنقل، يكون بهذ العمل أعطى السيادة للعقل، ولكن ليس لعقله، إنما لعقل من سبق، وبالتالي أعطى من سبقه قيادة أموره والتفكير عنه لحل مشكلاته وتحقيق مصالحه".

ويشير إسلامبولي إلى أن الخطاب الإلهي موجه إلى العقل (السمع والبصر والفؤاد)؛ وبالتالي فإن تجميد الجانب العقلي يؤدي إلى توقف التطور الفكري والعلمي على الأصعدة كلها، منوهاً إلى أن العقل لا يرفض "كل ما جاء به السلف، وإنما يقوم بفرزه من جديد، حسب الأدوات المعرفية المعاصرة، ويحتفظ بالصواب، ويستبعد ما يراه خطأ أو غير مناسب له".

3 - عرقلة تطور بنية العقل العربي: وفي سياق تغليب التيار الأصولي التراثي للنقل على إعمال العقل، يشير محمد شحرور إلى تأثيرات ذلك على عرقلة التطور الفكري، بأن أصبح العقل العربي "قياسياً ترادفياً"، في حين أنه يدعو إلى تغليب العقل النقدي.

ويرى شحرور أن العقل العربي غير قادر على إنتاج المعرفة، ويبرر ذلك ببنية العقل العربي التي تميل إلى اعتبار كل شيء حراماً إلا ما حُلل، ولكن هذا على خلاف أن كل شيء حلال إلا ما جاء فيه نص بالتحريم.

وربط بين "تخلف العقل العربي" ونظرة الشعوب إلى الوراء بسبب نمط الدين، مقارنةً بالتطور في أوروبا؛ لأن نمط التدين فيها فردي، والمجتمعات الأوروبية مبنية على القيم الأخلاقية والإنسانية.

4 - الشافعي وتأصيل تهميش العقل: كان جورج طرابيشي أحد الباحثين والمفكرين العرب الذين تطرقوا لأولوية إعمال العقل، مقابل التوسع في النقل في الكتب التراثية؛ إذ يرى أن الإمام الشافعي كان سبباً في إغلاق الباب أمام الرأي وإعمال العقل، خاصة مع مواقفه الحادة من "أهل الرأي والكلام"، الذين قال فيهم: "رأيي في أهل الكلام أن يُضربوا بالنعل ويطاف بهم بين القبائل".

ويعتبر أن كتاب الشافعي بعنوان: "الرسالة" هو الأساس في تأصيل اعتبار السنة مصدراً تشريعياً في الإسلام على المستوى الفقهي، وهو ما أدى إلى سلسلة من التأثيرات المرتبطة بذلك، من إضعاف النص القرآني لصالح التوسع في عدد الأحاديث في زمنه. وبشكل عام، فإن منظومة الشافعي التي صاغها تعمد إلى تهميش العقل.

5 - الحاجة إلى العقل النظري لا الفطري: خضعت أفكار ابن تيمية، التي جاءت في كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، والتي تعرض فيها إلى عدم الحاجة إلى عقل نظري –فلسفي- في فهم الدين.. خضعت إلى النقد والانتقاد.

ويقول الباحث زادان المرزوقي، في دراسته لنقد أفكار ابن تيمية، إنه "اعترض من الأساس على حاجتنا إلى العقل النظري، بدعوى عدم الحاجة إلى المنتجات الفلسفية والنظرية، وإنما كل ما نحتاجه هو العقل الفطري الضروري داخل الدين، ويجب أن يتوقف ذلك على حدود إثبات حقيقة الخالق وصحة الوحي".

ويوضح أن ابن تيمية يقصد أننا: "نستخدم العقل الفطري للوصول لإثبات حقيقة وجود الله، ثم إثبات صحة الوحي والنبوة، وبعدها يتم توقيف العقل الفطري في الفهم الديني"؛ ولكن هذا ينطوي على أزمة تتعلق بأن: "منطقه العقلي لا يستقيم عقلاً، بسبب أن النص ذاته يُعتبر موضوعاً غير عاقل، فكيف يريد ابن تيمية من النص أن يفسر نفسه إذا حصل الاختلاف والتعارض؟".

وختاماً، في مقابل تمسك التيارين "التراثي والتجديدي" بموقفهما حيال قضية أولوية إعمال العقل أم النقل، فإن ثمة بعض الرؤى التي تسعى للتوفيق بين الاتجاهين، وإن كانت محسوبة على التيارات الدينية التقليدية، وتدفع بضرورة التوزان بين النقل وإعمال العقل.

الأكثر قراءة

اتجاهات ثقافية

معركة ذي قار: مقدمات الفتوحات الإسلامية لبلاد فارس

30-01-2025

اتجاهات ثقافية

الحور العين: اختلاف الحقيقة القرآنية عن مِخيال المفسرين والرواة

01-09-2024

قراءات عامة

الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة وتجديد الخطاب الفقهي

14-09-2024

قراءات عامة

دليل التدين العقلي: عقلنة الدين لأجل الإصلاح الجذري

20-11-2024

قراءات عامة

خليد بنعكراش: القواعد "الست" في فهم وتأويل القرآن

01-09-2024

اقرأ أيضاً

اتجاهات ثقافية

مشروعات إصلاحية: ما أبرز إشكاليات تجديد الخطاب الديني؟

01-09-2024

ارسل بواسطة