تظل المعجزة الحدث الأبرز الذي شكَّل قاعدة أو بنية تخييلية ومعرفية في العقل البشري، سواء الديني أو الميثولوجي. والمعجزة، بالتعريف، هي حدث عجيب وخارق لنظام الطبيعة تظهر للبشر. وهذه القدرة على تسخير الطبيعة وظواهرها المختلفة، اقترنت دائماً بالإيمان وحدوث الطاعة والتسليم، بعد تحقيق الدلالة الرمزية التي تتعين في المقدس.
إشارات ودلالات
تعدَّدت أشكال المعجزات التي حدثت في الطبيعة، فقد كانت ترمز في غالب الأحايين إلى مد الجماعة المؤمنة بالرزق والخير، أو تحقيق النجاة لهم، وربما فرض العقاب على من يخالف إرادة الله؛ فضلاً عن وضع دلالات ثبوتية للمقدس.
ويقول الدكتور الباحث التونسي، باسم المكي، إن السماء كانت "مورد رزق للجماعة المؤمنة، فكانت مصدر نجاة". وفي كتابه: "المعجزة في المتخيل الإسلامي"، يشير إلى ظواهر عدة من المعجزات التي سُخِّرت فيها الطبيعة، مثل "الماء إذ يصبح طريقاً هادياً لبني إسرائيل"، وتسخير الريح وبخاصة في نصوص معجزات سليمان، وتسخير الجماد انطلاقاً من مثالين تأكد حضورهما في نصوص المعجزات، وهما العصا (عصا موسى)، والخاتم (خاتم سليمان).
ويعقد المكي مقاربة بين النص التوراتي والخطاب القرآني؛ إذ يوضح توسع النص التوراتي في وصف الطعام المقدم من الإله، وذلك بخلاف النص القرآني الذي اقتصر على القول بإنزال "المَنّ والسلوى" دون وصف أو تدقيق.
وبالعودة إلى المعاجم اللغوية، نلمح اتساع المستوى الدلالي لكلمتي المَنّ والسلوى. فيقدم ابن منظور جملة من الدلالات ترتبط بكلمة "المَنّ"؛ ويقدم أيضاً دلالتين للسلوى تقترن الأولى بالطعام، "فالسلوى العسل"، وهي كذلك "طائر". أما الدلالة الثانية فـ"السلوى كل ما سلّاك، وقيل للعسل سلوى لأنه يسليك بحلاوته وتأتيه عن غيره مما تلحقك فيه مؤونة الطبخ وغيره من أنواع الصناعة"، كما ورد في "لسان العرب".
ويشير صاحب المعجزة في صيغة تساؤل: "أليس في معجزة الحصول على الطعام بتلك الكيفية تذكير بزمن البدء"، أي الزمن أو الفضاء الذي انبعث منه الخلق، وكان فيه آدم يأكل من "الجنة رغداً". وقد مثّل الغذاء همَّ الإنسان، فما سعيه في الأرض وما جهده ونصبه إلا للحصول على لقمة العيش. ويردف قائلاً: "فإذا كانت الأرض والصحراء تلفه من كل الأرجاء فإن اللقمة والغذاء يصبحان مقدسين، فيرى فيهما جوداً من الرب وهبة دالة على رضاه".
التفسير المعنوي
يتقاطع ذلك التفسير مع المقاربة المعتزلية لتفسير المعجزة؛ فالزمخشري يذكر في تفسيره "الكشاف"، لقوله سبحانه: ﴿وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ﴾ [البقرة: 57]، أنه "وينزل عليهم المنّ وهو التّرنجبين مثل الثّلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان ضاع، ويبعث الله الجنوب فتحشر عليهم السلوى، وهي السّمّاني، فيذبح الرجل منها ما يكفيه".
أما التفسير الصوفي فقد اقتفى الأثر النفسي للمعجزة، ولم يخرج عن الإشارات المعنوية؛ فيقول ابن عربي في "التفسير": "... ﴿وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ﴾، من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإسهال رذائل أخلاق النّفس، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية، التي تحشرها عليكم رياح الرحمة والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها". فيما لم تعد عبارة ﴿ٱلۡمَنّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ﴾ دالة على الطعام في التفسير والمعنى الصوفي، بل ترمز إلى المقامات والمعارف الإلهية المدرَكة في التيه.
وبالعودة إلى الباحث التونسي باسم المكي، نجد مقاربة لافتة، فيقول إن تيه بني إسرائيل ليس تيهاً في المكان، وإنما هو تيه نفسي، وما الخلاص منه إلا بواسطة الترقي في مقامات المعرفة. وبذلك نحا التفسير الصوفي نحواً مختلفاً ومُغايراً في تفسيره لمعجزة إنزال الطعام. إذاً، فالطعام يضحي "غذاء روحياً" و"حقائق إلهية" "تنير الطريق بحثاً عن الخلاص".
المشترك التوحيدي
في المتخيل المرتبط بالمعجزة مشترَكٌ في الميراث الكتابي الإبراهيمي؛ فمعجزات المشي على الماء، مثلاً، مقتصرة في الأناجيل على عيسى، غير أنها في المتخيَّل الإسلامي اقترنت بأولياء الله؛ إذ إن لهم القدرة على الإتيان بمثل هذه الخوارق. فهذه الكرامة بأن الماء يتحول إلى طريق ممهدة يعبرها الولي ومريده دون أن يبتلَّا، إنما تؤشر على رغبة الإنسان في تجاوز حدوده المكانية والنجاة، ربما، من حدث ما أو التماهي والتماس مع العالم المقدس الذي يحقق النجاة كذلك. ومن الصحابة مَن ارتبطت بهم هذه المعجزة؛ إذ كان سعد بن أبي وقاص، الذي مشى وجنوده على نهر دجلة في معركة القادسية، وفق ما أورد ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية".
في التفسير الصوفي لطوفان نوح الذي يقع، كذلك، ضمن المشترك التوحيدي، يقول ابن عربي: "وأما التأويل فمحتمل بأن يؤوّل الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه من قومه [...]، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك مَن لم يتجرد عنها لمتابعة نبي وتزكية نفس، كما جاء في كلام إدريس النّبي عليه السلام، ومخاطبته لنفسه بما معناه: "إن هذه الدنيا بحر مملوء ماءً، فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت".
وما يمكن استنتاجه أن ابن عربي يجعل الفلك والطوفان رمزين، فلا يفهمهما على الحقيقة، وإنما يؤولهما تأويلاً جديداً، وفق الباحث التونسي باسم المكي. فإذا بالطوفان يصبح دالاً على الدنيا بتقلباتها وتحولاتها وتبايناتها وما فيها من إغراء وإغواء، وتكون السفينة هي الشريعة التي يحتمي بها الإنسان ليسلك الطريق المستقيم.
أضف إلى ذلك أن العصا مثّلت وسيلة سحرية رافقت النبي موسى في مسيرته، فكانت له سنداً وعوناً على تأدية مهمته. وقد انطلقت رحلة العصا لحظة تكليف موسى بالرسالة والسير إلى فرعون ﴿وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ ٭ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ﴾ [طه: 17-18]، كما ورد بالقرآن الكريم، بل والعهد القديم.
في كتابه "عرائس المجالس"، يقول الثعلبي: "وأنزل الله معه [آدم] الحجر الأسود [...] وعصا موسى عليه السلام، وكانت من آسِ الجنّة، طولها عشرة أذرع على طول موسى. وقيل كانت من البان". وينقل خبراً آخر أكثر تدقيقاً يستند فيه إلى العلماء: "وقال أكثر العلماء: كانت عصا موسى من آسِ الجنة وكان طولها عشرة أذرع، على طول موسى، حملها آدم من الجنّة إلى الأرض، فورثها الناس صاغراً عن كابر إلى أن وصلت إلى شُعيب، فأعطاها موسى، واختلف العلماء في اسمها، فقال سعيد بن جُبير اسمها (ماسا)، وقال مقاتل بن سليمان اسمها (نفعة) [...] وقال آخرون اسمها عليق".
لكن المكي في كتابه يقول: غاب القول في أصل العصا عن النص القرآني، فلم يهتم به بقدر ما حرص النص على توضيح وظيفة العصا وعجائبيتها. غير أن الأخبار حرصت على البحث عن أصل العصا، فأجمعت على أن مصدرها كان شجر الجنة، وهو ما يدل على رغبة المتخيَّل الإسلامي في رد الأشياء إلى أصول معلومة. ولم تكتفِ النصوص بإقرار الأصل السماوي للعصا فأضافت التسمية، وإن كان الاختلاف واضحاً حولها.
والدور الأول السحري للعصا، كما في النص التوراتي، هو تفجير المياه "وَعَصَاكَ التِي ضَرَبْتَ بِهَا النَّهْرَ خُذْهَا فِي يَدِكَ وَاذْهَبْ هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ فَتَضْرِبُ الصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ الشَّعْبُ". ويكاد لا يختلف المعنى ذاته في القرآن؛ إذ ردد النص القرآني أصداء هذه المعجزة ﴿وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ...﴾ [البقرة: 60].
ويعقّب ابن كثير على الخبر، قائلاً: "وأنبع لهم بضرب موسى عليه السلام، حجراً كانوا يحملونه معهم بالعصا، فتفجّرت منه اثنتا عشرة عيناً لكل سبط عينٌ منه تنبجس، ثم تتفجّر ماءً زُلالاً فيستقون ويسقون دوابّهم ويدّخرون كفايتهم". فالعصا تصبح خَلاصاً في صحراء لا ماء فيها ووسيلة لتحقيق أحلام الجماعة المؤمنة.
أما الدور الثاني للعصا، فيتمثل في تحولها إلى أفعى أو ثعبان كما ورد في القرآن ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعۡبَانٞ مُّبِينٞ﴾ [الأعراف: 107]. ويقول المكي: "إذا كان النص القرآني قد سكت عن وصف الحيّة فنعتها بأنها [ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ]، فإن نصوص القصص قد وجدت في المساحات البيضاء للنص فرصة لوصفها.
فالكسائي في كتابه "قصص الأنبياء وبدء الخلق"، يشبّهها بالجمل فتصبح الحية المنقلبة مختلفةً عن بقية الحيات. فإذا كانت الحية من الزواحف، فإنها تتحول إلى حية ذات قوائم في المتخيّل. ولعل هذا يذكر بما كانت عليه الحية قبل العقاب السماوي "وكانت من أحسن الدواب التي خلقها الله تعالى، لها أربعة قوائم كقوائم البعير"، كما يقول الثعلبي في "عرائس المجالس". وبالتالي فإن "حية موسى تستحضر الصورة الأصل للحيات، لذلك حافظت على قدرة الكلام فوجهت الخطاب إلى فرعون تهدده بابتلاع قصوره والقضاء عليه".
وفي كتابه "حياة محمد"، سعى محمد حسين هيكل، ضمن مقاربته العلمية لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أن يطابق بين ما ورد في الكتب المختلفة وبين القرآن الذي عدّه "أصدق مرجع للسيرة". ومن ثم، حاول إعادة النظر في بعض حوادث المعجزات، ومنها شق الصدر. إذ يعترض هيكل على فكرة وقوع هذه المعجزة في التاريخ، بينما يرفض أن تكون الملائكة قد شقت صدر الرسول، ليؤكد أن "ما يشير القرآن إليه إنما هو عمل روحي بحت، والغاية منه تطهير هذا القلب وتنظيفه، ليتلقى الرسالة القدسية ويؤديها مخلصاً تمام الإخلاص، محتملاً عبء الرسالة المُضني". وانتهى هيكل، سواء في مقاربته لمعجزة شق الصدر أو غيرها، إلى "أن حياة محمد كانت كلها إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه مَن سبقه من أصحاب الخوارق".
حتى إن هيكل يشير إلى "الإسراء والمعراج"، فيقول: "في الإسراء والمعراج في حياة محمد الروحية معنى سامٍ غاية السمو، معنى أكبر من هذا الذي يصورون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخصب حظ غير قليل. فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها؛ لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان، أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبياً محدوداً بحدود قوانا المحسة والمدبرة، والعاقلة. تداعى في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور وحدته إلى الكمال، عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلبها على الشر والنقص والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة. والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعاً سمواً وجمالاً وجلالاً. فهو تصوير قوي للوحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده، فهذا التعريج على جبل سيناء حيث كلَّم الله موسى تكليماً، وعلى بيت لحم، حيث وُلد عيسى، وهذا الاجتماع الروحي، ضمت الصلاة فيه محمداً وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قوي لوحدة الحياة الدينية على أنها من قوام وحدة الكون في مَوْره الدائم إلى الكمال".
وختاماً، فإن المعجزة تقع ضمن أطر ونطاقات عديدة، بينما تؤشر على دلالات متفاوتة وتحقق وظائفها على المستوى الإيماني. فضلاً عن ذلك، فإن توسع المعاني التفسيرية العقلانية أو الصوفية أو حتى محاولات التفسير الحرفية على أنها حقائق تامة ونهائية ليس فيها تأويل، لا يلغي اعتبارها حدثاً له مساحته واشتراطاته الثقافية والتاريخية، وكذا التلقي الذي يخلق التعدد.