"التعريف التبسيطي للوحي في السياقات الإسلامية يقدَّم في عبارتين شعائريتين، مستخدمتين على نحو عام أو شائع، من قِبل أي مسلم عندما يستشهد بأي مقطع من القرآن، فهو يبتدئ كلامه بـ"قال الله تعالى"، ويختتمه بـ"صدق الله العظيم"... وعندما جرى إدخال تعليم الدين بالمدارس الابتدائية، راح الأساتذة غير المدربين جيداً يُعلمون الأطفال تفسيراً وحشياً هلوسياً غير مسيطر عليه. ولعبت وسائل الإعلام دوراً في هذه الظاهرة عندما أسهمت في زيادة الطلب على التدين الشعبوي".
هكذا ابتدأ الكاتب والمفكر الجزائري محمد أركون كتابه "القرآن.. من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"، الصادرة طبعته الأولى عام 2001، عن دار الطليعة ببيروت.
تبسيط الاعتقاد
يقول أركون إن هذا الجانب الدعوي العشوائي للدين، مما أسماه المراقبون والصحفيون بـ"عودة الدين"، أو "الصحوة الدينية"، يدل في الواقع على تفسُّخ الخطاب الروحي والاستخدام المبتذل والرديء للقرآن نفسه.
ويضيف أنه قد تشكلت نسخة مبسطة جداً عن تاريخ الوحي، منذ أن كانت المذاهب التقليدية تأخذ المواعظ المشكَّلة من مبادئ بسيطة وموجزة، وهي مبادئ تقول للمؤمن ما الذي ينبغي الإيمان به وما ينبغي نبذه؛ وأصبحت في متناول المؤمنين الأمّيين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
ويؤكد الكاتب، عبر مؤلَّفه، أن كلمة "الله" قد استُخدمت لدعم المعتقدات والتقاليد والعادات والشفرات الثقافية لفئات عرقية-لغوية عديدة، موجودة في جميع المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام، حسب قوله، مضيفاً: "وهذه الفئات الموجودة في إندونيسيا والهند والصين وإفريقيا وآسيا الوسطى، لا تستطيع التوصل إلى القرآن في نسخته العربية، وهي تقيم علاقة مع الله أو محمد أو القرآن من خلال التلاوة الشعائرية جداً لسور القرآن القصيرة، كما تقيم علاقة معهم من خلال الحكايات الأسطورية التي تروي قصص الملائكة والأنبياء الذين نقلوا الوحي أيضاً، وهذه الحكايات تُحكى شفاهياً للأطفال والبالغين باللهجات المحلية الوطنية".
ويؤكد أركون أنه لا يمكن تأسيس تاريخ مقارن للأنظمة اللاهوتية، إذا ما رفضنا القيام بتحليل الاستراتيجيات المعرفية السائدة داخل كل تراث ديني على حِدةٍ، وهي استراتيجيات تهدف، حسب قوله، إلى ترقية الذات أو تمجيد الذات؛ ثم اعتقاد كل طائفة دينية بأنها تمتلك وحدها النسخة الموثوقة والصحيحة والكاملة عن الحقيقة الموحَى بها (أو حقيقة الوحي).. هذا ما تعتقده الطائفة اليهودية والطائفة المسيحية والطائفة الإسلامية، وكل طائفة تحذف ما عداها، حسب قوله.
سورة العَلَق
يقول الكاتب إن التفسير الإسلامي الموروث لهذه السورة، التي تحتل الترتيب "96" في المصحف، يؤكد أن هذه السورة هي أول وحي نُقل إلى محمد في غار حراء من قِبل الملاك جبريل، الذي يطابقون بينه وبين الروح القدس في المسيحية، فقد سأل جبريل محمد ثلاث مرات أن ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ﴾، ومحمد يجيب: "ما أنا بقارئ"، لافتاً إلى أننا نملك في هذه القصة رواية أدبية عن العملية المستخدمة لنقل الوحي من الله إلى الناس عبر محمد؛ فجبريل يتردد باستمرار بين الله (أي السماء)، ومحمد (أي الأرض)، لكي يجلب الوحي، تماماً كما كان يحدث مع "يسوع" وبقية أنبياء التوراة، وهكذا يضمن الملاك جبريل عن طريق وجوده صحة وموثوقية الوحي المنقول على طول الخط، بدءاً من آدم وانتهاءً بمحمد.
ويلفت الكاتب هنا إلى أن المفسرين القدامى أهملوا قيمة المجاز، ورفضوها كلياً عبر وجودها في عبارات ﴿عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ﴾ و﴿لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِيَةِ ٭ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ﴾، و﴿أَلَمۡ يَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ﴾، وهي تعبيرات من سورة العلَق، مشيراً إلى أن التيار الباطني في الموروث الإسلامي قد ولّد أدبيات ضخمة وهائلة عن كلمات مثل "القلم" و"الله الذي يرى" و"زبانية الجحيم".
وهذا يرينا فقط، بحسب الكاتب، كيف أن الخطاب القرآني استُخدم كوسيلة للاستغراق في التأملات التجريدية، مؤكداً أنه لا يزال مُصراً على أن التحليل السيميائي/الدلالي ينبغي أن يحظى بالأولوية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالنصوص الدينية التأسيسية، فهذا النوع من التحليل يعطينا فرصة لكي نمارس تدريباً منهجياً يهدف إلى فهم كل المستويات اللغوية التي يتشكَّل المعنى من خلالها.
التفسير الفوضوي
يُعرف الكاتب "التاريخية" بأنها حدث ما قد حصل في الماضي بالفعل، وليس بتصوُّرنا أنه حدث، كما الحال في الأساطير؛ ومن هنا، ينتقل بنا إلى ما يسميه التاريخوية الوضعية في مواجهة التاريخية الراديكالية، منتصراً للتاريخية المعتمدة على وقوع الأحداث، وثبوت ذلك عبر وثائق ووقائع وأشخاص وُجدوا حقيقةً ودلت على وجودهم وثائق دامغة، باعتبارهم مادة للتاريخ الحقيقي.
وهذا يعني، بحسب الكاتب، استبعاد العقائد والتصورات الجماعية التي تحرك المخيال الاجتماعي، مؤكداً أن إعادة التفكير في مسألة الوحي، من خلال المنظورات الفلسفية التي فتحتها التاريخية ضد التاريخوية الوضعية الضيقة، سوف تجعل الفكر الإسلامي قادراً على الإسهام في إعادة التقييم الحديثة الجارية حالياً للمعرفة.
ويلفت الكاتب إلى ما أسماه "التفسير الفوضوي للقرآن الكريم"، مستشهداً بما قدّمه قَتَلة الرهبان المسيحيين المقيمين في منطقة في الجزائر، من أدلة عبر الآية "29" من سورة التوبة، التي تقول: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ﴾، من أجل إضفاء "مشروعية" على هذا العمل الإجرامي المضاد لكل ما علمنا إياه القرآن؛ وكذلك قَتَلة الرئيس السادات.
وهذا يعني، بحسب الكاتب، أننا لا نستطيع أن نهمل هذا "التفسير" لكي نريح أنفسنا ونتخلص من انحرافات الجهل وضميرنا مرتاح؛ لأن هذا ما يفعله جمهور المسلمين المعاصرين عندما يقولون لك إن أعمال العنف التي يرتكبها المتطرفون لا يمكن أن تؤثر في مجمل المجتمع الذي ينتمون إليه، ولا في الرسالة القرآنية التي يزعمون أنهم يستخدمونها أو ينتمون إليها.
المعنى القرآني
يقول الكاتب إنه لا يمكن أن نتعامل مع السور القرآنية باعتبارها نصاً تأسيسياً يعطينا المعنى الحقيقي لكل شيء، ويضيف أن جمهور المسلمين يطالب النص بأن يعطيه ذلك المعنى وتلك الأحكام؛ لأن هذا المعنى بالنسبة للجمهور في غاية الأهمية، من حيث إنه ينير له وجوده الشخصي وكل تصرفاته داخل طائفته وفي مواجهة العالم، محققاً له الأمان والاطمئنان، فيما الدين صراحة يهدف إلى رفعة شأن الإنسان وكرامته؛ فهو من جهة أخرى يشكل ذروة مقدسة يمكن التلاعب بها من قبل الفاعلين الاجتماعيين، الذين يُخضعون هذه الرفعة للكرامة الإنسانية إلى إرادات القوة والهيمنة.
ولكن "المؤمنين" سوف يعترضون على كلامنا، والحديث للكاتب، قائلين إن طريقة النظر هذه سوف تسحب من اللاهوت أسبقيته وأولويته في الدفاع عن الإيمان؛ لأنها تجعل الحقيقة الدينية نسبية، وتساوي بين المقدس والدنيوي، أو بين النجاة الأبدية في الدار الآخرة والنجاحات الظرفية العابرة؛ لافتاً، في هذا الإطار، إلى "الوظيفة النبوية"، قائلاً: "إذا ما استخدمنا منظور التحليل التاريخي والثقافي والأنثروبولوجي، فإن الوظيفة النبوية ينبغي أن تُفسَّر من خلال مفهوم "إنتاج الرجال العظام" كما يقول موريس غودلييه في أحد كتبه، أي كيف يتولّد الرجال العظام وكيف يظهرون في التاريخ، والأنبياء بهذا المفهوم من الرجال العظام لأنهم يقودون البشر ويحركون التاريخ، لكن النبي بهذا المفهوم يتميز عن مفهوم البطل عبر استخدام أدوات أخرى ونوابض نفسية مختلفة، قاصداً اعتماده على الظاهرة المعقدة المدعوة بـ"الوحي"...".
وأخيراً، يُشير المؤلف إلى آيتين من القرآن، هما:
الأولى، قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ جَعَلۡنَا بَيۡنَكَ وَبَيۡنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ حِجَابٗا مَّسۡتُورٗا﴾ [الإسراء: 45].. والثانية، قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204].. ثم يقول إن الآية الأولى تتحدث عن "حجاب مستور"، وبالتالي عن فصل بين النبي الذي يتلو التبشير أو الكلام المُوحَى وأولئك "الذين لا يؤمنون بالآخرة"؛ أما الآية الثانية، فتُعلمنا أن القرآن متلو تلاوة (وليس قراءة صامتة) ويجب أن نستمع له وننصت.
وختاماً، يلفت الكاتب إلى ما أسماه "العمليات الاعتباطية" الناتجة عن كل قرار يُتَّخذ بقراءة عادية لعبارة لغوية، تقدم نفسها صراحة بصفتها كلاماً موجهاً لكي تصغي إليه جماعة متجمعة في ظروف خارجية معينة واستعدادات داخلية محددة بكل دقة. مُشيراً إلى أنه ينبغي علينا أن نتلقّى لغة ما، أي أن نفك رموز تصنيف ما، وهذا هو الشيء الذي لا يزال التفسير الإسلامي يفعله، منذ أن كانت الدعوة التبشيرية، وقبل أن تودع كتابةً في "المصحف".