لا شك بأن أحد أهم المصادر الموثوقة للنحاة الأوائل هو الشعر الجاهلي؛ فهم يعتمدون عليه بشكل رئيسي كمصدر للحجة والاستدلال، ولكنهم في ذات الوقت أعرضوا عن الاحتجاج بالحديث النبوي رغم أهميته واعتباره مصدراً موثوقاً عند المحدثين والفقهاء. وهذه الملاحظة تستدعي تساؤلات حول طبيعة النصوص اللسانية ودرجة الموثوقية التي يحملها كل من الشعر الجاهلي والحديث النبوي.
يُمثل الشعر الجاهلي، الذي أنتجه العرب قبل الإسلام، رصيداً لسانياً وتراثياً حيوياً. يعتمد النحاة الأوائل، أمثال الكسائي وسيبويه على هذا الشعر لتقعيد قواعد اللسان العربي، لما له من أصالة في التعبير عن العربية الفصحى. كما أن الشعر الجاهلي يُعتبر نصاً محفوظاً شفهياً وأدبياً، محفوظاً في ذاكرة المجتمعات البدوية والحضرية، وموثوقاً بسبب تداوله المستمر بين الأجيال دون تغييرات جوهرية. وعلى هذا الأساس، فإنه يؤخذ كمصدر حيّ يُحتج به في تقعيد قواعد النحو وغيرها.
وعلى سبيل المثال فإن سيبويه لم يذكر في كتابه "الكتاب" سوى بضعة أحاديث ولم يقل فيها قال النبي عليه الصلاة والسلام، بل ذكرها على أنها مما قاله العرب، وبذات الوقت استشهد بأكثر من ألف بيت من الشعر العربي.
والشعر الجاهلي، وإن كان من كلام غير المسلمين (المجتمع الجاهلي)، إلا أنه حظي بمكانة عالية في الاحتجاج للتقعيد النحوي، مع أن روايته تعتمد على ذاكرة الناس ورواتها من غير العدول حسب اصطلاحات المحدثين.
وعلى النقيض، يُعرف الحديث النبوي بكونه نصاً يُحتج به في الأحكام الشرعية، وهو مؤسس على نظام إسناد دقيق يهتم بضبط الرواة وعدالتهم كما يقول المحدثون، وعلى الرغم من ذلك، لم يحتج النحاة الأوائل بالحديث لتقعيد قواعد النحو، مع أن النحاة والمحدثين يقولون إن النبي محمد عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم وهو أفصح العرب.
يرجع ذلك، كما يوضح كثير من علماء اللسان العربي، إلى أن الحديث لا يُروى باللفظ الدقيق، بل كثيراً ما يُروى "بالمعنى". هذا يعني أن الرواية تمر بمرحلة من التغيير والتبديل نتيجة تداولها بين أعاجم ومولدين، مع احتمال الإضافة أو الحذف أو التبديل في ألفاظ الحديث، لكن المهم الحفاظ على المعنى العام. ويشير السيوطي في "الاقتراح في أصول النحو" إلى أن هذا التعدد في ألفاظ الحديث يجعل من الصعب الاحتجاج به لفظياً، وخاصة في موضوع دقيق كالنحو.
هذا الواقع يخلق تناقضاً منهجياً واضحاً؛ إذ إن الإسناد في الحديث يُعد علماً دقيقاً وحُجة شرعية لأن الإسناد من الدين حسب وجهة نظر المحدثين، لكنه يفشل في أن يكون معياراً لتقعيد النحو العربي، وبينما نجد في المقابل، الشعر الجاهلي الذي لا يستند إلى أسانيد دقيقة كتلك التي عند المحدثين من مسلمين عدول ضابطين، يُحتج به بحُجّة لا تُضاهى في النحو العربي.
يطرح هذا التناقض تساؤلات مهمة: لماذا تُقبل الرواية الشعرية غير الموثقة بشكل صارم كمصدر لساني أصيل، بينما يُرفض الحديث الموثق في تقعيد النحو؟ هل لأن الشعر يُعتبر رصيداً لسانياً حياً محفوظاً عبر التتابع الشفهي؟ أم لأن الحديث رغم إسناده فقد تعرض لتحريف لفظي نتيجة الرواية "بالمعنى"؟
إن الاحتجاج بالحديث في تقعيد القواعد النحوية لا يكون بحجية الإسناد فقط، بل يجب الأخذ بالاعتبار كون الرواية لم تكن قد تغيرت على ألسنة الرواة. فالرواة الذين في الأسانيد كانوا يروونها بالمعنى ومن جاء بعدهم يرويها بالمعنى إلى أن دونت بالمصنفات المشهورة أيضاً بالمعنى، وهذا كله يقلل من قيمتها كدليل لساني دقيق. بينما الشعر الجاهلي بقي إلى حد كبير محفوظاً لدى القبائل البدوية التي لم تتغير لهجاتها بشكل جذري، وهذا ما يمنحه أولوية كمصدر لغوي أصيل.
هذا التباين في المعايير بين الشعر والحديث يفتح الباب أمام نقد أعمق لعلوم الحديث، لا سيما فيما يتعلق بمنهجية التوثيق وأثر الرواية بالمعنى على صحة النص. كما يدعو إلى إعادة تقييم دور الإسناد كمعيار وحيد للحجة، خصوصاً في مجال اللسان العربي الذي يتطلب دقة لفظية والذي لا يتحمل الرواية بالمعنى.
بالإضافة إلى ذلك، هذا الواقع يعكس أن النحو ليس فقط علماً لسانياً بحتاً، بل هو علم يعتمد على السياق الاجتماعي والثقافي الذي حفظ اللسان، مما يجعل الشعر الجاهلي عند المدارس النحوية أفضل معيار لساني من الحديث النبوي الذي تغير نصه بفعل عوامل متعددة.
إن اعتماد المدارس النحوية على الشعر الجاهلي الذي لا يعتمد على نظرية الإسناد، وعدم الاحتجاج بالحديث النبوي الذي رواه العدول الضابطون في تقعيد القواعد النحوية يُبرز تناقضاً منهجياً، ويدعو إلى إعادة النظر في نظرية الإسناد ومدى دقتها وعلميتها، فإذا كان الحديث لا يصلح لتقعيد قاعدة نحوية، فكيف يُبنى عليه أحكام تتعلق بالدماء والأموال والفروج وتأسيس المفاهيم والعقائد والأخبار الغيبية.